القاهرة، 30 أيلول/سبتمبر 2024
القاهرة، 30 أيلول/سبتمبر 2024
في عام 2020 وما تلاه، كلفتني هيئة قضائية دولية بترجمة شهادات شهود تخص جرائم دولية ارتُكبت في بلد ما. وكانت الشهادات تفصيلية شديدة العمق. فقد سَأل المستجوِبون الشهود عن الأوصاف الدقيقة لأشخاص عديدين فضلاً عن درجة قرابتهم بالشهود وغيرهم. فكان الشهود يشيرون إلى أن شخصاً ما هو cousin فلان، وإن فلانة هي cousin هذا الشخص أو ذلك.
ولما كانت ترجمة تلك الشهادات تكتسي أهمية بالغة بوصفها دليلاً في القضايا محل النظر، فقد اجتهدتُ في تحرِّي الدقة الشديدة في إعدادها. وقد تضمنتْ نصوص الشهادات بعضاً من مظاهر الغموض، ومنها كلمة cousin، وهي من الكلمة الشديدة العمومية في اللغة الإنكليزية. فقد استوقفتني كل مرة كي أجد دليلاً أو قرينة تدل على كُنْه تلك القرابة في اللغة العربية.
فلتلك الكلمة ثمانية مقابلات باللغة العربية. وهي ابن عم، ابنة عم؛ ابن عمة، ابنة عمة؛ ابن خال، ابنة خال؛ ابن خالة، ابنة خالة.
ويقول قاموس أكسفورد كذلك إن لها معنى آخر غير محدد قد يُعبَّر عنه بكلمة «قريب» باللغة العربية. إذاً يعرِّفها القاموس بأنها:
a person who is in your wider family but who is not closely related to you
ويضرب مثالاً عليها كما يلي:
She's some sort of cousin, I think.
وللمترجمين إلى العربية في ترجمة الكلمة أساليب متعددة، فمنهم من يقول «قريب»، ومنهم من يقول «أحد أبناء العمومة»، ومنهم من يفسِّرها حسبما يرى؛ فيقول «ابن عم» مثلاً على سبيل التقريب. ومنهم من يُسقِطها تماماً. وهذا ما نراه في ترجمة المرئيات. أما في سياق دليلٍ يُقدَّم إلى محكمة في قضية دولية، فالأمر يستدعي حلاً يميط اللثام ويحقق الدقة المطلقة.
ولهذا، كان من الواجب أو أُوجِّه محرِّر الشهادات المكتوبة إلى ذلك الأمر، وأن أطلب إليهم صراحة أن يبيِّنوا للمترجم التحريري -على الأقل- درجة القرابة بدقة شديدة. وبيَّنت أن ذلك يمكن تحقيقه في اللغة الإنكليزية. فإذا قلنا مثلاً: son of maternal uncle فإننا نشير بذلك إلى «ابن الخال» بالتأكيد. وهذا، وإن كان يخالف طريقة التعبير الطبيعية في اللغة الإنكليزية، فإنه يحقق غرض الدقة في اللغتين المترجَم منها والمترجَم إليها. وقد قوبلت ملحوظتي بترحيب شديد، وأتمنى أن يلتزم بها محرِّرو تلك الوثائق في المستقبل.
وفي ترجمة شرح قانون المحكمة الجنائية الدولية، التي أنجزها فريقي في عامَي 2021 و2022، وجَّهنا انتباه شُرَّاح القانون بالإنكليزية إلى العديد من أوجه الغموض أو الأخطاء غير المقصودة في النص الإنكليزي، فما كان منهم إلا أن رحَّبوا بذلك وصحَّحوه. فكانت النتيجة نصَّيْن: إنجليزيًّا وآخر عربي، خاليَيْن من الإخطاء. وقد أشاد رئيس تحرير الشرح الإنكليزي -في مقدمته للطبعة الثانية- بذلك الجهد الذي أجدِّد لفريقي الشكر عليه.
وقد رَويت في محاضرة تشرَّفت بإلقائها في كلية الألسن بجامعة عين شمس قصةً عن واقعة مشابها أدى تدخلنا فيه إلى تغيير طريقة كتابة بالإنكليزية، أو على الأقل استشارة المترجمين قبل الكتابة، في إحدى المنظمات الدولية. وربما تتاح الفرصة لسردها في مقال لاحق.
والشاهد هنا هو بروز دور المترجم، لا بوصفه آخر حلقة في سلسلة إعداد الوثيقة أو الدليل في حالتنا المبيَّنة هنا، وإنما بوصفه مساهماً في إعداد الوثيقة التي ستؤول إليه لترجمتها في نهاية المطاف، وكذلك بوصفه مستشاراً ثقافياً مختصاً في اللغة المترجَم إليها وفي ثقافتها.
فثمة حالات كثيرة، مثل حالتنا، لا يركن فيها المترجم إلى كونه مجرد ناقل لا إثم عليه فيما ينقل، جلياً أكان أم غامضاً، مسوَّغاً أكان أم مُلغَّماً، بل يصبح جزءاً من فريق كبير يؤدي فيه دوراً يُرتجَى منه تحقيق الغاية الكبرى من عملية الترجمة، لا الهدف المحدود المتمثل في إنجاز ما عليه من مهام آنية. لكن من الجدير بالذكر أننا لم نتناول هنا ما قد يتضمنه النص الأصلي من ثغرات مقصودة، أو ما يطلقون عليه تلطُّفاً «الغموض البنَّاء»، على نحو ما ورد في قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 242.
وقد تناولت في مقال سابق قصة صياغته وترجمته إلى العربية، حيث تكلمت في المقال المذكور عن دور المترجم الذي تمليه تلك الحالة.
للتفاعل مع المقال والتعليق عليه على فيسبوك، تفضَّل بالنقر على الرابط التالي:
- اقرأ أيضاً -
اسأل فتحي عبد الرؤوف: حوار أجرته رشا الغيطاني من مركز بيت الحكمة للأبحاث والتطبيقات والتطوير
العمل في مجال الترجمة بمنظومة الأمم المتحدة: حوار أجرته ريم الشناوي وأمير بسيوني من مركز بيت الحكمة للأبحاث والتطبيقات والتطوير والمدرسة العربية للترجمة
دندنة: حوار أجرته رادا الجوهري على أثير إذاعة الشباب والرياضة
لحظة اختيار: حوار أجرته رادا الجوهري على أثير إذاعة الشباب والرياضة (1)
لحظة اختيار: حوار أجرته رادا الجوهري على أثير إذاعة الشباب والرياضة (2)