مقدمة

لم يثر قرار دولي ما أثاره القرار 242 الصادر بالإجماع عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من جدل حول فحواه، بل حول لغته على وجه الخصوص. فقد صدر القرار مطالبًا إسرائيل بالانسحاب مما احتلته من أراضٍ في 5 حزيران/يونيه 1967، ومؤكدًا مبدأً مهمًّا في القانوني الدولي هو عدم جواز الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب. وما زال القرار يشكل صلب المفاوضات والمبادرات الرامية إلى وضع حد للصراع العربي الإسرائيلي حتى يومنا هذا. لكن الأمور لم تسر على هذا النحو المريح للعرب الذين سارع أكثرهم إلى قبوله رسميًّا، بل سرعان ما ثار الجدل حول الفقرة الفرعية الأولى من الفقرة (1) القاضية بانسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من أراضٍ احتُلت/الأراضي التي احتُلت في النزاع الأخير.

فقد جاء النص الإنكليزي الأصلي على هذا النحو:

Withdrawal of Israeli armed forces from territories occupied in the recent conflict;

أما النص الفرنسي، فجاء على النحو التالي:

Retrait des forces armées israéliennes des territoires occupés lors du récent conflit;

أين تكمن المشكلة؟

كما يتضح من النصين، تكمن المشكلة في غياب أداة التعريف the في النسخة الإنكليزية قبل كلمة territoires ، بينما توجد أداة التعريف des في النسخة الفرنسية قبل كلمة territoires، ويوجد ما يماثلها في اللغات الرسمية الأخرى، لكن ما يعنينا هنا هو اللغتان الإنكليزية والفرنسية لأنهما لغتا العمل في مجلس الأمن. وهكذا يصبح القرار بنصه الإنكليزي وكأنه يدعو إسرائيل إلى الانسحاب الجزئي من الأراضي التي احتُلت، في حين يدعوها بنصه الفرنسي إلى الانسحاب الكامل من تلك الأراضي. ولهذا كان من مصلحة إسرائيل أن تتشبّث بالنص الإنكليزي بتفسيره الموضّح، وأن تتهم النص الفرنسي بالخطأ في الترجمة؛ إذ زعمت أن انسحابها من جزء من الأراضي أو من معظمها كافٍ للامتثال للقرار، وخاصةً أن الصيغة لم ترد فيها كلمات من قبيل all التي لو وردت، لكان على إسرائيل أن تنسحب من «جميع الأراضي» دون شك. ولهذا، لا تزال إسرائيل تزعم حتى يومنا هذا أن انسحابها من سيناء وحدها هو بمنزلة امتثال تام للقرار.

النص ذو الحجية

من المعلوم أن جميع نصوص القرار بلغاته الرسمية المعتمدة متساوية في الحجية، أي لها الأثر القانوني ذاته دون انتقاص. ومن هنا كانت للمشكلة أوجه متعددة؛ إذ تعدّت الجدل في تفسير اللغة الواحدة إلى الجدل في الترجمة إلى الفرنسية والجدل القانوني حول حجية النص الفرنسي في ضوء ذلك الاختلاف كما سيتضح في موضع لاحق من هذا المقال.

حجج المؤيدين لوجوب الانسحاب الكامل

كان رأي المؤيدين لوجوب انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي التي احتلتها يستند إلى أسباب بعضها لغوي وبعضها الآخر قانوني. فقد قِيل مثلًا إن كلمة territories معرّفة بما بعدها وهو ما يُعرف في الإنكليزية بـ post-modification بورود عبارة occupied in the recent conflict؛ ومن ثم، لا تحتاج إلى the ابتداءً، أي إن كل ما احتُل في النزاع الأخير ينطبق عليه وجوب الانسحاب.

ومن الأمثلة القوية التي تعتمد على تفسير النص استنادًا إلى فهم سياقه العام، أي تفسير بعض النص ببعضه الآخر، ما ذهب إليه المحامي الإنكليزي جون هوغو من أن التعامل مع territories على أنها تعني «بعض الأراضي» لا «جميع الأراضي» إنما يفتح الباب أمام العرب للتنصل من الالتزام بالسماح بحرية الملاحة في جميع «الممرات المائية الدولية» ما داموا يسمحون بحرية الملاحة في «بعضها»؛ حيث نصت النسخة الإنكليزية من القرار على التزام الجميع (والمقصود هنا العرب بالطبع) بما يلي:

“guaranteeing freedom of navigation through international waterways in the area”

مشيرًا بذلك إلى غياب أداة التعريف the قبل international waterways كذلك دون أن يفسرها أحد بأنها «ممرات مائية دولية».

ودفاعًا عن هذا التفسير أيضًا، قال غِلن بيِري إن المادة 33 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات تنص على قاعدة تفسير مهمة مفادها أنه «إذا أظهرت مقارنة النصوص الرسمية اختلافًا في المعنى لم يُزِلْه تطبيق المادتين 31 و32، يؤخذ بالمعنى الذي يوفق بقدر الإمكان بين النصوص المختلفة مع أخذ موضوع المعاهدة والغرض منها بعين الاعتبار.» ومضى قائلًا إن العبارات الواردة في القرار من قبيل territorial integrity أي سلامة الأراضي و territorial inviolability أي حُرمة الأراضي وthe inadmissibility of the acquisition of territory by war أي عدم جواز الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب، لا يمكن توفيقها مع التفسير الآخر بأي حال.

أما الجانب الفرنسي، فقد عبر عن رأيه على لسان ممثل فرنسا لدى الأمم المتحدة حينئذ مؤكدًا صحة النص الفرنسي، ومن ثم، التفسير الأول الذي يُفِيد وجوب انسحاب إسرائيل الكامل من جميع الأراضي.

حجج المعارضين لوجوب الانسحاب الكامل

تمسك الجانب الإسرائيلي بحجج منها أن المفاوضات التي جرت بشأن القرار كانت جميعها تدور حول النص الإنكليزي لا الفرنسي. وهو بذلك يستند، فيما يبدو، إلى الاتفاقية السالفة الذكر نفسها في مادتها الثانية والثلاثين التي تنص على أنه «يمكن اللجوء إلى وسائـل تكميلية في التفسير، بما في ذلك الأعمال التحضيرية للمعاهدة وملابسات عقدها». وقال آخرون مؤيدون للتفسير نفسه إن مجلس الأمن قد رفض اعتماد مشروع قرار يتضمن الكلمة بتعريفها، أي the territories، ومن ثَم، تكون نية المجلس قد انصرفت إلى عدم استخدام أداة التعريف في القرار المتخذ.

تفسير صائغي القرار أنفسهم

أما الجانب البريطاني، وهو مقدم مشروع القرار وصائغه، فقد عبر عن موقفه جورج براون، وزير خارجية بريطانيا وقتئذ قائلًا إن صدور القرار بالإجماع يشبه المعجزة، وإن إدراج أداة التعريف the أو كلمة all كان كفيلًا بجعل صدور القرار ضربًا من ضروب المستحيل. وأوضح قائلًا إن صياغة القرار على هذا النحو المثير للجدل كان المقصود منه فتح آفاق المفاوضات بين الجانبين العربي والإسرائيلي لا أكثر.

ومن ذلك ما ذكره لورد كارادون، ممثل بريطانيا الدائم لدى الأمم المتحدة حينئذ وكبير صائغي القرار، من أن صياغة القرار على هذا النحو أمر متعمد. لكنه برر ذلك بأنه كان يريد للقرار أن يرفض استمرار استيلاء إسرائيل على أراضي ما قبل عام 1976 ولم يكن، كما أوضح، يريد أن يقر باحتفاظ إسرائيل بأراضٍ استولت عليها بالقوة. وعضد حجته قائلًا إنه لهذا السبب قد أورد العبارة التالية في ديباجة القرار:

inadmissibility of the acquisition of territory by war

وهي تعني عدم جواز الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب. وبهذا تكون خلاصة موقفهم أن الغموض الكامن في النص مقصود، ولكنه لا يعني إجازة استيلاء إسرائيل على الأراضي التي احتلتها.

الموقف العربي والترجمة العربية

بطبيعة الحال تمسك العرب بالتفسير الأول. لكن الحقيقة أن اللغة العربية لم تكن لغة رسمية في الأمم المتحدة في ذلك الوقت؛ إذ اعتُمدت لغةً رسمية في مجلس الأمن سنة 1983، وبهذا تكون أي ترجمة للقرار ترجمة غير رسمية لا حجية لها في القانون الدولي. وهذا ما يخالف رواية شائعة مفادها أن مترجم الأمم المتحدة وقتئذ ترجمها ترجمةً تؤيد التفسير الإسرائيلي، ومن ثم، تسبب في عدم إلزام إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها في عام 1967. بل اتهم البعض المترجم بأنه السبب في ضياع تلك الأراضي. لكن العكس هو الصحيح، حيث تمسك العرب بترجمة القرار على نحو «انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في النزاع الأخير»، في حين ترجم الإسرائيليون القرار، كما هو موضح على موقع وزارة خارجيتهم، على نحو «انسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية من أراضٍ احتُلت في النزاع الأخير.» بل يذكر الموقع الموضح في موضع آخر من الصفحة المخصصة لهذا القرار، أن «القرار 242 لا يطالب إسرائيل بالانسحاب من جميع المناطق التي أصبحت تحت سيطرتها نتيجة لحرب 1967 كما تدّعي الدول العربية. فالقرار يكتفي بدعوة إسرائيل إلى الانسحاب "من أراضٍ" معترِفًا في الوقت ذاته بحقها في الوجود في حدود آمنة ومعترف بها.»

موقف المترجم

مما سبق يتضح أن الغموض في النص الإنكليزي للقرار كان مقصودًا لذاته. لكن هذا لا يمنع العرب من التمسك بالتفسير الأول، ومن ثم الترجمة الأولى. وليس في ذلك أي تحيّز للموقف العربي، بل يستند هذا الموقف إلى ما ساقه مؤيدو التفسير الأول من أسانيد لغوية وقانونية قوية لا يفت في عضدها القصد غير المفصَح عنه لدى من صاغوا القرار، لا سيما مع التصريح به بعد صدور القرار لا قبله، ومع ما أبدته وفود الدول الأعضاء في مجلس الأمن حينئذ من فهمها أن القرار يلزم إسرائيل بالانسحاب من «جميع الأراضي» كما جاء في جميع نصوص القرار الأخرى؛ إذ إن مدار الأمر في الترجمة -وهي ضرب من ضروب التفسير- على فهم اللغة والسياق العام لا التفتيش في النية المبيّتة لدى صائغ النص وما يخفيه في صدره من أغراض.

المراجع

· My Way, George Brown Memoirs, by George Brown, St. Martins Press New York, 1971, page 233;

· Security Council Resolution 242 According to its Drafters, accessed on 8 January 2017;

· oreign Relations of the United States Volume XIX, Arab-Israeli Crisis and War, 1967, pages 520–523, Document numbers 308 and 309;

·Foreign Relations of the United States, 1964–1968, Volume XIX, Arab-Israeli Crisis and War, 1967, Page 1015, Document 515 and Page 1026, Document 521

·http://mfa.gov.il/MFAAR/IsraelAndTheMiddleEast/PeaceProcess/Pages/disputed%20territories.aspx, accessed on 8 January 2017;

·https://treaties.un.org/doc/Publication/UNTS/Volume%201155/volume-1155-I-18232-English.pdf, accessed on 8 January 2017; and

· http://www.moqatel.com/openshare/Wthaek/UNDocs/UNdocs1/ImgAMaglesAmn242_13-1.htm_cvt.htm accessed on 8 January 2017.


اقرأ أيضًا