مقدمة

وسائل التواصل الاجتماعي حافلة بأسئلة من قبيل «كيف أترجم كذا؟» وتأتي الإجابة عنها في معظمها إن لم يكن كلها مجيبة عن كيفية الترجمة دون أن تسأل عن الغاية منها. والحقيقة أن سؤال «كيف أترجم؟»، وإن كان ذا أهمية بالغة، لا يكفي لمساعدتنا في إنتاج ترجمة رصينة محققة للهدف المرجو منها؛ إذ كيف تحقق الهدف وهو غير واضح أو غير موجود ابتداءً؟

لن أتطرق في هذا المقال إلى النظريات التي تتناول إجابة السؤال، وأهمها نظرية الهدف Skopos theory التي تناولها بالشرح الوافي كتاب «الترجمة بوصفها نشاطا هادفا» للمؤلفة كريستيان نورد الذي ترجمه الصديق الدكتور أحمد علي، لكن سأنطلق كعادتي من واقع الممارسة العملية. ويمكن، لمن أراد، أن يطلع على النظرية وشرحها.

مبدئيا، أزعم أن الهدف من الترجمة غير مرتبط ارتباطا أساسيا بنوع النص. فلا يمكن القول إن الترجمة الأدبية مثلا تهدف إلى كذا. هذا تبسيط مخل. ذلك أن المترجم لا بد أن يجيب عن السؤال المذكور في كل مرة يتصدى فيها لكل وحدة من وحدات النص (مفردة أو عبارة أو جملة أو فقرة)، على أن تسبق ذلك إجابته عن السؤال إجابةً عامة تحدد هدفه الكلي من ترجمة النص برمته. وهذا ما سأفصله في هذا المقال.

وسأستهل مقالي بقصة طريفة حدثت لي عندما التحقت بالعمل في أحد مكاتب الترجمة فور تخرجي. إذ طُلب إلي ترجمة دليل تفصيل ملابس يشرح ما يُطلق عليه الخياطون «الباترون» وتعرفه معظم السيدات في بلادنا بهذا الاسم. كان النص حافلا بمصطلحات تقنية من قبيل stitch التي، حتى مع معرفتي معناها، بحثت عنها في القاموس، فعدتُ بكلمة « دَرْزَة»، وبالطبع لم استخدم لفظ «غُرزة»، ربما لأن له دلالة سلبية في السياق المصري، أو ببساطة لأنها لم تبد لي فصيحة. أمَّا فيما يخص كلمة Pattern، فلم أتردد في استبعاد «باترون» الفرنسية الأصل، وترجمتها على ما أتذكر بعبارة «نموذج التفصيل». وفور الانتهاء من ذلك العمل الضخم، الذي انتشيتُ فرحا بكتابته بتلك اللغة الفصيحة، جاءني العميل وهو صاحب مصنع تفصيل ملابس، فقال لي في هدوء: «يا أستاذ، يعني أيه ’دَرْزَة‘ دي؟ أنا عارف معناها، لكن الدليل ده هتستخدمه بنات أكتر واحدة متعلمة فيهم معاها دبلوم، فيها أيه يعني لو كتبت ’غُرزة‘؟» كانت حُجة الرجل قوية لدرجة ألجمت لساني عن النطق بالحجة المقابلة التي كنت أستحضرها في ذهني. وأدركت وقتها أنني أجبتُ عن سؤال «كيف أترجم؟» وما يستتبعه، قبل أن أجيب عن سؤال «لماذا أترجم؟»، وسؤال آخر تابع له هو «لمن أترجم؟» وبالطبع غيرتُ «نموذج التفصيل» إلى «الباترون» من تلقاء نفسي. وكانت تلك الواقعة درسا تعلمته ومنهجا أطبقه في كل أعمالي.

الترجمة القانونية

ألا يكفي وصف نص ما بأنه نص قانوني أن يحدد استراتيجية ترجمته؟ الإجابة: في رأيي، لا. فكل وثيقة قانونية تستلزم منهجا مختلفا باختلاف طبيعتها. خذ «التوكيل» مثلا. إذا فهمت الغاية من تحرير تلك الوثيقة، فستعرف كيف تترجمه. فالغاية من ترجمة توكيل ما هو أن تُقدَّم ترجمته إلى جهة في بلد آخر بحيث تفهم الجهة المقدم إليها، كالمحكمة، أشياء أساسية، هي: الموكل والوكيل والتاريخ وموضوع التوكيل باختصار. إذاً، تنتظر المحكمة أن يبدو التوكيل مكتوبا بلغة قانونية أقرب إلى رطانتها لا رطانة اللغة المكتوب بها التوكيل الأصلي. هي تريد وثيقة تؤدي غرضا معينا فحسب. ولا داعي، بل لا مجال لتراكيب لغوية مربكة -كالمترادفات الكثيرة في اللغة القانونية الإنجليزية- بل يكفي أن يلمح القاضي في الوثيقة العناصر السابقة، والأفضل طبعا أن ترد في صيغة تعودت المحكمة على سماعها بحكم الصفة التراثية المميزة للغة القانون. فصيغة التوكيل الإنكليزية إذا تُرجمت كلمة بكلمة وعبارة بعبارة بالترتيب نفسه، لن تعني شيئا باللغة العربية القانونية، وستكون مسخا لا يحقق الغاية المتوخاة من الترجمة القانونية، وهي ترجمة وظيفية في جوهرها.

أمَّا إذا كنت تترجم إلى الإنكليزية دراسة قانونية مفصلة عن هيكل السلطة القضائية في مصر مثلا بما فيها من تراتبية دقيقة في الوظائف والهيئات، وهي تجربة واقعية عِشتها، فلا ينبغي حينئذ أن تجنح كثيرا إلى أسلوب المكافئات القانونية، كما هو حال التوكيل. بل ينبغي أن توضح للقارئ الفارق بين معاون النيابة ومساعد النيابة مثلا. إذ لو كان هدفك مجرد أداء الوظيفة مجردةً عما عداها، كما في حالة التوكيل، فقد يكفيك أن تترجم أيا منهما بعبارة assistant prosecutor.

وهذا مثال آخر. إذا طلب إليك ترجمة عقد ما، فينبغي أن تفرق بين شروطه وملاحقه. فشروطه موجهة إلى قانونيين. ومن ثم، لا مناص من أن تستخدم في ترجمته المصطلحات والتراكيب القانونية، وإن كانت فصيحة غير شائعة، ما دام القانونيون يعرفونها. أمَّا الملاحق، فبما أنها موجهة إلى مهندسين تنفيذيين أو مقاولين وعمال حِرَفيين في الأساس، لأن من أهم أهدافها أن تصبح أداة تنفيذية لشروط العقد، فينبغي أن تستخدم الألفاظ الفنية/التقنية الدارجة كمثال ’الدرزة‘ و’الغرزة‘ أعلاه. فكلمة Plasterer، التي ربما ترد في ملاحق عقد إنشاء، لا ينبغي ترجمتها بكلمة ’جصاص‘ كما وردت في المعاجم، بل بكلمة ’مبيض محارة‘ إذا كان الجمهور مصريا أو جمهورا آخر يعرف هذا المصطلح.

الترجمة الأدبية

ما ينطبق على ما سبق ينطبق على نوع يراه كثيرون على النقيض منه، ألا وهو ترجمة النصوص الأدبية. نعم هناك هدف عام للترجمة الأدبية، لكن إذا كنت تريد أن تنقل إلى القارئ النرويجي مثلا انبهار بطل القصة العربي بجمال حبيبته الشقراء ذات العيون الزرقاء، فلن يجد قارئ ترجمتك النرويجي وجها للانبهار، إذ إن معظم النرويجيات في بيئته شقراوات شديدات البياض، فما الداعي للانبهار إذا؟ وهنا ينبغي أن تغير صورة حبيبته إلى صورة امرأة ذات سفعة أو سُمرة خفيفة أو عيون سوداء ساحرة مثلا. هذا إن كان هدفك إمتاع القارئ بالقصة وعدم إدخاله في تفاصيل تستلزم تفكيرا وتفسد جوها المسلي. أمَّا إذا كان هدفك نقل صورة العربي وما يبهره بحكم البيئة التي يعيش فيها، فلتنقل الصورة كما هي دون تغيير. والاستراتيجيتان المتقدمتان صحيحتان. والغاية التي تستبينها تحدد أيهما تختار.

ترجمة أعمال المنظمات الدولية

ينطبق على ترجمة أعمال المنظمات الدولية ما ينطبق على غيرها. فلا ينبغي أن توضع كلها في سلة واحدة. فترجمة وثيقة رسمية -ذات حجية قانونية أو غير قانونية- محملة بالمصطلحات الفريدة ينبغي أن تختلف عن ترجمة مادة إعلامية مبسطة -من قبيل الأفلام والملصقات- تستهدف توعية القارئ العادي بأمر ما. إذ إن ترجمة المحضر الحرفي لجلسة عقدها مجلس الأمن ينبغي أن تختلف عن ترجمة آخر موجز لجلسة عقدتها لجنة فرعية. وترجمة التقارير -كل حسب منظور مقدمه وموقفه- تختلف عن ترجمة أحكام المحاكم وأوامرها وفقهها. وقد كتبتُ في كيفية تدريس ترجمة الأمم المتحدة في الجامعات مقالا أنشره قريبا، وهو يتناول حسن اختيار الوثيقة محل الدراسة وما يترتب عليها.

الخلاصة

ربما يبدو ما تقدم بديهيا، لكن الواقع يقول إن الأمر ملتبس لدى كثيرين؛ فالقفز إلى الكيفية قبل بحث الغائية يؤدي إلى وقوع كثير من المترجمين -حتى الكبار والمنتسبين إلى هيئات كبرى منهم- في مشاكل ما كان لهم أن يقعوا فيها لو قدموا الإجابة عن سؤال: «لماذا نترجم؟». وقد رأيتُ في مؤسسات دولية من يستخدمون في المواد الدعائية الموجهة إلى الجمهور ألفاظا لا يستطيع فك طلاسمها سوى بضعة أشخاص يعملون في مجال الترجمة في تلك المؤسسة دون غيرها!

إذا، خلاصة القول هي أن حُسن الإجابة عن سؤال «لماذا نترجم» وما يستتبعه من سؤال «لمن نترجم» كفيلان بأن يجعلا من ترجمتك ترجمةً محققةً للهدف والغاية، ومن عملك عملا ذا أثر وجدوى.


اقرأ أيضًا