نستكمل في هذه الحلقة ما بدأناه في الحلقتين الأولى والثانية من حوارنا مع خالد سمرة، مدرس الترجمة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة سابقا، والمترجم الفوري بالأمم المتحدة حاليا. ويتناول حوارنا قضايا تفصيلية عن طبيعة العمل وأبرز التحديات وسبل التصدي لها.

وقد أجاب فيها خالد سمرة عن الأسئلة التي وردتنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر الموقع معبرا عن آرائه الشخصية دون أن يمثل الأمم المتحدة.

التدخل المتعمد بهذا الشكل ليس خطأ، بل خطيئة!! أعطيك مثالًا متطرِّفًا، حدث ذات مرة عندما كنت أعمل في المجال الحر قبل أن أنضم إلى الأمم المتحدة أن استخدم أحد المتحدثين كلمات حادة ومهينة لدِينِ زميلي الذي كان يترجم بجواري –ودِينه هو ديني أيضًا– فانفعل الزميل واعترض ولم يرغب في استكمال الترجمة، فتناولت الميكروفون، ونقلتُ كل شيء كما أراد المتحدث تمامًا وإن كان ساخرًا شاتمًا مهاجمًا. فدوري هو أن أنقل ما يُقال نقلًا أمينًا، ودور المنقول إليه أن يرد، إن أراد ذلك. هذا عملك وعليك أن تعرف مقتضيات عملك قبل أن تقبله. الإساءة الحقيقية أن يمنع الوسيطُ الأصيلَ من أن يفهم ما يدور بلغة ليس له بها عِلم. انتماءاتنا تبقى معنا، ومن غير المسموح أن تظهر في الميكروفون. وإن كنتَ لا تزال غير مقتنع بما أقول، فاسأل نفسك: هل المتحدث يوجِّه حديثه إليك؟ الإجابة: لا. إذًا لا تتدخل.

اللغة المستخدمة في المنظمات الدولية عمومًا لغة محايدة ومراعية للحساسيات. لكن استخدام المصطلحات يخضع لاعتبارات خاصة لا سيما في حالة النزاعات الدائرة، إذ تلتزم المنظمة بالحياد اللغوي. فعلى سبيل المثال، المصطلح المستخدم في المنظمة للإشارة إلى أزمة الصحراء هو الصحراء الغربية Western Sahara، إذ إنها في عُرف المنظومة الدولية محل نزاع قائم. ولكن إذا كان المتحدث هو ممثل المغرب، فسيقول "الصحراء المغربية" Moroccan Sahara. والحل بسيط كما يبدو، وهو الالتزام بما يقوله المتحدث أيًّا كان. ولكن نظرًا إلى أن الفارق حرف واحد بين الكلمتين، فقد يحدث الخطأ، ومن ثَم، يأتي الاعتراض. خلاصة القول: لا تُمارَس علينا ضغوطٌ سياسيةٌ، ولكن هناك مستوى من الوعي ينبغي أن يتحلى به المترجم بحيث يوجِّهه في اختيار الألفاظ ودقة النقل سواء في المنظمات الدولية أو في غيرها. والشيء نفسه ينطبق على ترجمة كلمة "النظام" التي أصبحت لازمة في لسان البعض لدرجة استخدامها بوصفها مرادفا لكلمة "الحكومة". وإن افترضنا جدلًا أن الدلالة واحدة فالإيحاء مختلف. فقد حُمِّل اللفظ الأول أحمالًا سلبية خلال السنوات الأخيرة وأصبح استخدامه مقصودًا به عدم الاعتراف بنظام حُكم ما. ومن ثَم، يتعين التعامل مع كلا اللفظين بحساسية ووعي شديدينِ.

أعتقد أن هذه الاعتبارات ينبغي مراعاتها في كل الظروف والسياقات. والمنظمات الدولية تتعامل بمنتهى الحساسية مع اعتبارات حقوق الإنسان. فنحن نستخدم "ذوو الإعاقة" حصرًا لوصف أصحاب الإعاقة البصرية أو السمعية أو الكلامية أو الذهنية أو غير ذلك. وقِس على ذلك أي كلمة أخرى تنطوي على إهانة للإنسان أو تحط من كرامته.

أولًا، كما أسلفتُ، المتحدث حر في أن يستخدم ما يشاء. أمَّا نحن فنلتزم بالمتعارف عليه في المنظمة وفي عموم الأقطار العربية. ثانيًا، الأصل دومًا أن تترجم ما يقوله المتحدث بمدلولاته. فإذا قال «مثليون»، نترجمها كما هي؛ وإذا قال «شواذ»، نقول ما يقابلها في اللغة الأجنبية. والأمر أولًا وأخيرًا يعتمد على وعي المترجم وفطنته وخبرته، علما بأن المنظومة الدولية لا تقبل أن يُستخدم لفظ «الشواذ» بدلًا من «المِثْليين»، سواءً اتفق ذلك مع معتقدات المترجم أم لم يتفق. فاحترام التنوع إحدى القيم الأساسية في الأمم المتحدة بجميع منظماتها وكياناتها. وإن لم يكن المترجم قادرًا على احترام التنوع، فقد يكون من الأفضل أن يبتعد عن سِلك العمل في المنظمات الدولية.

أحيانًا يُعقد الاجتماع في بلد ما، في حين يكون بعض المتحدثين في بلد آخر، ونستخدم حينها تقنية الفيديو. إلا أن المترجم يؤدي عمله من مكان عَقْد الاجتماع الأصلي. ويخضع الأمر لاعتبارات عدة ترتبط بجودة الصوت. لكن أن يكون المترجم نفسه في مكان ثالث، فلم يحدث حتى الآن، في حدود علمي، لأسباب مهنية وتقنية.

على كل حال، على من يرغب، أن يتأهب ويدخل أحد امتحانات المترجمين غير المتفرغين التي تعقدها المنظمات الدولية أو الإقليمية. فإذا اجتازه، فسيصبح على قائمة المترجمين. وحينها سيعمل لدى تلك الجهة دوليةً كانت أم إقليمية، ويظل مقر إقامته الأساسي هو بلده.

اطلعتُ بالفعل على بعض التكنولوجيات الحالية لكنها لا تزال في طور التجريب، وبعضها مفيد في ترجمة عبارات الحياة اليومية كأن يستخدمها مَن يزور دولة لا يعرف لغتها. ولكن في سياق عملنا، ربما لا يزال الطريق طويلًا. فالنصوص المقروءة يُنشِئها بشر ويقرؤها بشر، فيترجمها بشر. والبيانات التي يمكن أن تنشئها وتقرأها الآلةُ أقربُ إلى أن تترجمها آلةٌ، وإن كانت هناك خطوط تماسٍّ. فيوجد في النص ما لا تستطيع الآلة الاستدلال عليه ابتداءً كالتورية والسخرية والحساسيات الثقافية، ولا تستطيع أن تخمِّن ما رغب المتحدث في أن يقوله وخانته فصاحته. كل هذا حتى الآن، أما في المستقبل، فلا أحد يعرف كيف ستسير الأمور. فتطور التكنولوجيا مذهل، وخاصةً ما يبتكره اليابانيون. وعمومًا، لا تُستخدَم هذه التكنولوجيات في المنظمات الدولية.

[يمكن للقارئ الاطلاع على مقالة «مستقبل المترجم في ظل الترجمة الآلية» في هذا الصدد]

المترجم الفوري الناجح يكون إما موهوبًا وإما صاحب مهارات. وبطبيعة الحال يمكن أن يتصف بالصفتين معًا؛ فالموهوب ينبغي له بالضرورة أن يخضع للتدريب لتعزيز مهاراته وإن كانت موهبته تقصِّر عليه طُرقًا طويلة. والموهوبون بالضرورة قليلون ومنهم من شرفتُ بالعمل معه شخصيا مثل إيمان الزيات وغادة شادارفيان ورشا أجا اليقين وأشرف كمال وعلي شادي ونادية أبو ريدة. وهذا على سبيل المثال لا الحصر كي لا أنسى أحدا. أما صاحب المهارات، فينبغي أن يكون لديه «الاستعداد الفطري» الذي يغذِّيه التدريب والعمل الدؤوب والطموح. وأنا أحب هذا النوع واحترمه كثيرا. وهناك صنف آخر مختلف، وهو مَن يرغب في الترجمة، ولكن يثبت بعد محاولات متكررة أنه لا يتمتع بالاستعداد الفطري ولا يستطيع أن يكون مترجما، وهذا ليس عيبًا؛ ولكن العيب أن تكرر الشيء نفسه مرات عديدة وتتوقع نتائج مختلفة.

هذا سؤال شائك. ولكني سأرد عليه بصراحة ووضوح. السوق في إقليمنا بوجه عام وفي مصر بوجه خاص غير منظَّمة. وفي هذه الأجواء، يصعب الحفاظ على قواعد المهنة والمبادئ الأخلاقية لممارسيها. ولكني أنصح بما يلي: 1) أن تتعرف على قواعد العمل الحُر ومبادئ المهنة، وتلتزم بها دون النظر إلى ما شاع. ومنها أن تلتزم بالقواعد الناظمة لعدد ساعات العمل وعدد المترجمين في الاجتماع الواحد. فليس من الفخر أن تعمل بمفردك في اجتماع لساعات متواصلة. هذا أمر غير مهنيّ ومنافٍ لكل قواعد العمل؛ 2) ألَّا تكسر السعر لتخلق لنفسك عملًا. هذا الأمر يسيء لك وللمهنة ككل. فاصبر قليلًا، وأعزَّ نفسك، تُعزَّ مهنتك؛ 3) من الشائع في المجال أن يتصل بك زميل لتحل محلَّه في اجتماع ما في حالة انشغاله بآخر. وهنا مبدآن جوهريان: أولًا، من العيب أخلاقيًّا أن تتقاضى عمولة من زميل مهنتك وإن كان البعض يفعل ذلك دونما شعور بالعيب. لكن على الجانب الآخر، من العيب على مَن يحل محل زميله أن يلتف حوله بأن يبدأ في الدعاية لنفسه لدى عميل زميله؛ 4) من أسوأ الظواهر التي تزداد مع ازدياد عدد الداخلين إلى المهنة أو مَن ينسبون أنفسهم إليها، أن ينقلب الهرَم، فتجد المسؤول عن توفير معدات الترجمة قد نُصِب رئيسًا على المترجم. وهنا يكون اللوم على المترجم الذي يسمح بذلك؛ 5) وأخيرًا، فإن تشرذُم مجتمع المترجمين الممارسين في أي سوق غير منظَّمة يؤدي إلى تردي أوضاعهم يومًا بعد آخر. وهذا يسمح لمرتزقة بأن يدَّعوا أنهم ممارسون أو مدرِّبون، فيسيئوا لنا إذا ترجموا، ويفسدوا علينا المهنة إذا درَّبوا.

الاتحاد الأوروبي يُجرِي اختبارات تؤهِّل للاعتماد في مجال الترجمة الفورية. أما مبدأ الاعتماد في مجال الترجمة الفورية في الأمم المتحدة فهو ليس قائمًا بهذا الشكل واللفظ. ولكن إذا اجتزتَ امتحانًا مما تعقده المنظمة أو إحدى وكالاتها المتخصصة، وصرتَ على قائمة مترجمي هذه الجهة، فإن ذلك يكون أقرب شيء إلى فكرة الاعتماد. ولهذا أشجِّع كل مَن يجد في نفسه المهارة والخبرة اللازمتين على أن يتقدم للامتحانات التي تعقدها المنظمات الدولية والإقليمية ألَّا يتردد في ذلك. ولكن اسمح لي أن أنبِّه الزملاء والزميلات الناشئين والناشئات إلى خطأ فادح يرتكبونه ربما عن غير عمد: فعند كتابة سيرتك الذاتية ووضْع قائمة بالاجتماعات التي شاركت فيها، يجب أن تتحرَّى الدقة: فربما تكون قد شاركت في اجتماع نظَّمته هيئة حكومية أو جهة خاصة بالتعاون مع مكتب إقليمي لوكالة دولية ما. ويدفع ذلك كثيرين إلى الاعتقاد أنهم بذلك أصبحوا معتمدين تلقائيًّا لدى تلك المنظمة. وهذا خطأ. فأنت بذلك أصبحتَ متعاونًا مع تلك الهيئة الحكومية أو مع تلك المنظمة أو ذلك المكتب الإقليمي على أفضل تقدير، وإن تواترت تلك الاجتماعات. أمَّا أن تقول إنك معتمَد لدى تلك المنظمة، فهذا أمر غير دقيق. وكتابة السيرة الذاتية وقائمة الاجتماعات عملية مهمة تعكس الكثير عن شخصية المتقدم وعن موقفه المهني. وأي محاولة للمبالغة لا تفيد المترجم، بل قد تضره.

أنصح بأن يبحث عن فرص للتطوع في مجال الترجمة. والتطوع مفيد في جميع المجالات على المستويين المهني والإنساني. أعطيك مثالا: هنا في سويسرا، يتطوع الأطباء بعد تخرجهم لسنة على الأقل في بلدان أخرى تفتقر إلى الخدمات الطبية. وهذا السنة تكون غير مجزيه ماديا، بل قد ينفقون أموالا فيها. لكنها في الحقيقة خير استثمار للطبيب في المستقبل. لأنه يتعرض لخبرات ما كان له أن يتعرض لها في بلده بسبب اختلاف الأمراض وتنوعها. وهذا ينطبق على مجالات كثيرة ومنها الترجمة. لأن حاجة المترجم في البداية إلى الخبرة تكون أهم من حاجته إلى المال.

لا يوجد تعارض بين الأمرين. التطوع بحكم تعريفه لا يكون بأجر. وهذا يكون معروفا ومحددا من البداية. وهو جزء من التعليم الذي يمكن أن تدفع فيه أموالا، مثله مثل الدورات التدريبية أو البرامج الدراسة المخصصة للحصول على الدرجات العلمية. وهذا، كما أسلفنا، خير استثمار في المستقبل. أمَّا إذا كان العمل بأجر متفق عليه، فعلى المترجم أن يأخذ احتياطاته من الوقوع ضحية للاحتيال.

ليس لدي علم سوى أن آخِر امتحان تنافسي عُقد في عام 2016. وأنصح الراغبين بمراجعة موقع وظائف الأمم المتحدة باستمرار لمعرفة آخر الأخبار عن مواعيد الامتحانات التنافسية.

في رأيي، المسألة تشبه الاحتراف الرياضي إلى حد ما. فقد يكون العمل على المستوى الدولي أكثر في متطلباته وضغوطه واحتياجاته مقارنة بغيره. ولكن هذا لا يعني أفضلية مطلقة لهذا على ذلك. فهناك مترجمون ذوو مهارات ممتازة يظلون يعملون في السوق المحلية طوال عمرهم. وهذا لا يقلل على الإطلاق من قدرهم ومن خبرتهم.

العمل على المستوى الدولي يفيد في توسيع مدارك الشخص وإطلاعه على مختلف الثقافات وأنماط التفكير واللهجات والموضوعات، وهو ما لا يُتاح عادةً على المستوى المحلي. وفي المقابل، هناك موضوعات في السوق المحلية لا نتناولها على المستوى الدولى عادةً. فقد يترجم المترجم مثلا في شركة مستحضرات تجميل أو حلقة عمل لنجارين أو ما إلى ذلك. ونحن لا نتطرق إلى مثل تلك الموضوعات إلا لمما. علما بأننا في المنظمة نتعرض لمجالات مستجدة دوما بسبب ارتباط حقوق الإنسان بكل مناحي الحياة تقريبا، ومنها مثلا ارتباط حقوق الإنسان بالرياضة بهدف القضاء على التمييز والعنصرية في الملاعب الرياضية.

كنت قد تحدثت عن ضرورة حصول المترجم الفوري على كلام واضح وبلغة غير معتورة كي يتمكن من نقل المحتوى كما ينبغي. وفيما يلي مثال على مشكلة من المشاكل التي نواجهها: كنتُ أترجم في مقصورة الترجمة لأحد وفود جنوب شرق آسيا. وكان بعض أعضاء الوفد يتحدثون بالإنكليزية والبعض يتحدث بلغته الأصلية حتى جاء أحدُهم وتناول الكلمة، وبدأ في الحديث مطنطنا بكلمات حروفها متحركة وقليلة السواكن. فظننت أنه يتحدث بلغتة وانتقلت مباشرة إلى القناة الإنكليزية كي آخذ الترجمة من لغته إلى اللغة الإنكليزية. فلم أجد ترجمة. فعدت إلى صوت القاعة، فإذا هو مستمر في الطنطنة بالأسلوب نفسه. بدأ بعضنا ينظر إلى بعض داخل المقصورة وفي المقصورات الأخرى المجاورة، حتى اكتشفتُ أنه كان يتحدث بإنكليزية ممزوجة بلكنته. استغرق الأمر عدة ثوان –وهذا وقت طويل في عرفنا– حتى حددت المشكلة والحل. علما بأن التعامل مع اللهجات واللكنات الغريبة جزءٌ من تدريبنا المستمر وخبراتنا المتراكمة. ولكن ما باليد حيلة أحيانا. في مثل هذه الأحوال، نرجع خطوة إلى الخلف لتجميع ما يقوله المتحدث قبل ترجمته. لكني في هذه الحالة رجعتُ خطوتين لا خطوة واحدة! وترجمت وكأني أترجم تتابعيا في بيئة المقصورة كي أفهم المحتوى وأقول شيئا مفيدا. وهنا يبرز دور التحضير للاجتماع الذي يفيد في تلمس الطريق وسط هذا الظلام الحالك. والحمد لله، انتهت المحنة بعد دقيقتين مرا كأنهما دهر.

وهناك أمثلة أخرى كثيرةـ، لكن لا أستطيع أن أتطرق إليها لكونها تنطوي على جوانب سرية.

كل ما أود أن أقوله لمتدربي الترجمة الفورية والممارسين الناشئين أن الطريق طويل ومرهق، ولكن الرحلة ممتعة.. ممتعة جدًّا.

اقرأ أيضًا