نستكمل في هذه الحلقة ما بدأناه في الحلقة الأولى من حوارنا مع خالد سمرة، مدرس الترجمة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة سابقا، والمترجم الفوري بالأمم المتحدة حاليا. ويتناول حوارنا قضايا تفصيلية عن طبيعة العمل وأبرز التحديات وسبل التصدي لها.

وقد أجاب فيها خالد سمرة عن الأسئلة التي وردتنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر الموقع معبرا عن آرائه الشخصية دون أن يمثل الأمم المتحدة. وينُشر باقي الحوار في الحلقة الثالثة.


المعيار الأساسي هو إجراء اختبار لُغوي أوَّلا للتأكد من إجادة المتقدم اللغتين، وبالتالي أهليته للتدرب على الترجمة. وأذكر عندما كنتُ أعمل في التدريب على الترجمة أن بعض الطلاب كانوا يسجلون في برنامج الترجمة لتعلم اللغة الإنكليزية. وهذا يعرقل عملية التدريب ويؤثر عليه بالسلب. وبعد اختبار اللغة، أرى أن يُعقد امتحان بسيط في الترجمة التحريرية. أمَّا فيما يتعلق بالتقسيم إلى شعبتي الترجمة التحريرية والفورية، فأرى أن يبدأ الطالب بدراسة مواد أساسية مشتركة بين الفرعين مع وجود مادة أو اثنتين فوريتين. وعلى ضوء ذلك، يمكن فرز الطلاب وتحديد من ينضم منهم إلى كل من الشعبتين. هذا في حالة التعليم المستمر، ويمكن أن ينسحب أيضا على التعليم بعد الجامعي، وإن كان الشائع في النوع الأخير أن يُجرى اختبار تحريري مع إجراء مقابلة تتضمن اختبارا في الترجمة التتابعية.

نعم، وما المانع؟ لدينا عدة أمثلة على ذلك بالفعل في المكاتب المختلفة. المساواة في الفرص أحد المبادئ الأساسية التي تقوم عليها المنظمة ووكالاتها المتخصصة.

لا، المترجمون يعملون في كل المجالات، وهذا هو حال المترجمين الفوريين في الأمم المتحدة. أما في الوكالات المتخصصة، فيكون المترجم بحكم عمله في تلك المنظمة مترجِمًا متخصِّصًا.

عن طريق التحضير للعمل بدراسة الوثائق التي تتناول كل موضوع على حِدة، مثل دراسة التقارير السابقة أو التقارير المنتظر استعراضها إن صدرت أو الخلاصات الوافية لتلك التقارير. ولا يكون التحضير تحضيرًا لُغويًّا فحسَب كما يفضل البعض، بل ينبغي أن يكون بدراسة الوثائق للاطلاع على المعلومات. فهذا الأمر يساعد كثيرًا في زيادة مستوى التوقع لدى المترجم الفوري (anticipation)، ويدفعه أيضًا للبحث عن المفاهيم والتعرف على المصطلحات. والاطلاع على الوثائق يكون سواء تُرجمت تحريريًّا أم لم تُترجم بعدُ.

نراعي في الأمم المتحدة استخدام الألفاظ الشائعة في أغلب الأقطار العربية، ولكننا لا نستطيع أن نفرض على الوفود استخدام خيارات لفظية معينة وعدم استخدام أخرى شائعة في مجتمعاتهم أو نظامهم الإداري. إذ يحق لهم ذلك. ويكون التعرف على الاستخدامات المختلفة في الأقطار العربية جزءًا من مهمتنا؛ حتى إذا صادفناها، فَهِمْنا معناها وترجمناها كما ينبغي. ولكن في المقابل، لا يصح لنا نحن أن نستخدم هذه الخيارات المحلية في لغتنا المترجمة، بل نعمد إلى استخدام الشائع في معظم الأقطار العربية أو المعتمَد في المنظمات الدولية. ومن الأمثلة التي وردت على ذهني الآن مصطلح «الهدر المدرسي» المستخدم في المغرب، ويُقصَد به «التسرب المدرسي». والمطلوب من المترجم الفوري معرفة تلك الاستخدامات لترجمتها ترجمةً سليمةً إلى اللغة الأجنبية دون أن يعتمدها في ترجمته، عِلمًا بأن زملاءنا من المغرب لا يستخدمون هذا المصطلح في مقصورة الترجمة. وهناك أمثلة أخرى، من قبيل ما نستخدمه في مصر ونظن أنه مفهوم للغير مثل كلمة «كوبري». وفي كل الأحوال، على المترجم أن يكون على دراية بهذه الاستخدامات ومعانيها.

استخدِمْ ما شئتَ؛ فأي منهما لا يعوق الفهم ولا يُعترض عليه، وكلاهما يُستخدَم في المنظمة منذ نشأة الخدمة العربية فيها. وبمناسبة الحديث عن نشأة الترجمة الفورية في الأمم المتحدة، أود أن أحيلك إلى مقالة شيقة نشرتها إحدى الزميلات العزيزات عن تاريخ المقصورة العربية في الأمم المتحدة، للتعرف على تاريخ المهنة وعلى أسماء الآباء المؤسسين لها في الأمم المتحدة.

ولكن بما أننا تطرقنا إلى موضوع الجيم، فينبغي الإشارة إلى أن هناك ثلاثة أوجه شائعة لنطق الجيم في اللغة العربية لا اثنين فقط: إمَّا معطشة بإدغام حرفَي الدال والجيم، وهي منتشرة في بلدان الجزيرة العربية وصعيد مصر؛ أو مخففة وتنطق كحرف j الفرنسي، وهي منتشرة في بلدان الهلال الخصيب وشمال أفريقيا؛ أو مشبعة التي يطلق عليها الجيم القاهرية، وهي منتشرة في شمال مصر وأجزاء من جنوب اليمن وعمان. ولهذا الأمر خلفية تاريخية لن أخوض فيها لضيق الوقت. وفي مصر نفسها، كان طه حسين يتحدث بالجيم المعطشة، وعباس العقاد يتحدث بالجيم المشبعة، وكلاهما من أهل الصعيد، ولكن العقاد اختار هذه دون تلك. وعمومًا، هذه الظاهرة ليست قاصرة على المقصورة العربية؛ إذ تجد مثيلًا لها في المقصورات الأخرى: الإسبانية والفرنسية والإنكليزية، وفي لغات أخرى بالتأكيد. ففي الإسبانية مثلًا، ينطق المترجمون الفوريون الإسبان حرفَيْ c (بعد e وi) وz كالثاء، في حين ينطقها الزملاء المترجمون من أمريكا اللاتينية كالسين. إذًا، المحكُّ دائمًا هو الاتساق أثناء العمل.

[يمكن للقارئ الاطلاع على هذه المقالة المفيدة في هذا الصدد]

نعم. ولكن هذا يعتمد على مركز العمل (أي نيويورك وجنيف وفيينا ونيروبي). فهناك مراكز عمل تعتمد أكثر من غيرها على السفر في بعثات خارج البلد الواقع فيه المركز. وفي البعثات الميدانية، لا نترجم في المقصورات عادةً، بل نستخدم طريقة الترجمة المهموسة chuchotage أو التتابعية consecutive أو نستخدم أجهزة مخصصة للترجمة الفورية دون الكابينة bidules.

إسقاط المعاني والأفكار عيبٌ من عيوب الترجمة وخطأ مهني. ولكن أحيانًا لا يكون الإسقاط عيبًا، بل استراتيجية مقصودةً وقرارًا واعيًا للتغلب على تحديات معينة، مثل السرعة الشديدة، وبعض العوامل الأخرى، وبالتالي، يحدث في أضيق الحدود. وتتجلى كفاءة المترجم وذكاؤه في سرعة تحليله للبيان الملقى وتحديد الحشو والزيادات وسرعة اتخاذ القرار بما يُنقل وما يترك. وهذه إحدى المهارات المطلوبة من المترشح لامتحانات الترجمة الفورية بالمناسبة. وغني عن القول أن أسعد لحظات المترجم الفوري أن ينقل كل ما يقوله المتحدث، وهو ما يتحقق لنا بشرط أن يتكلم المتحدث بسرعة معقولة ولغة سليمة ولهجة واضحة غير مُعتَورة وتراكيب مفهومة غير مُبهَمة. فإذا حدث خلل في أي من هذه العناصر، نتدخل "جراحيًّا". فنسقط ونعوض (مفردات وليست أفكارًا)، وننقص ونضيف (لنوضح)، ونتأخر ونتقدّم (زمنيا)، ونقدّم ونؤخّر ونعيد الترتيب (عناصر الجملة) ونعيد الصياغة ونعدلها (ضبط لغوي) ونعرّب ونغرّب ونقرّب (مصطلحات غير مستقرة، ألفاظ جديدة، أرقام متتالية)، ونستخدم ضمائر لترجمة جملة ونستخدم جملة لترجمة ضمائر وغيره وغيره.

هذه أدواتنا نستخدمها لخدمة المعنى لا للانتقاص منه. فإذا أردتَ أن تُقيِّم أداء المترجم الفوري فعليك أن تُقيِّمه بأدواته لا بأدوات المترجم التحريري. كما أنك إذا أردت أن تُقيِّم أداء المترجم التحريري لا تقيمه بأدوات كاتب النص الأصلي أو مستخدم اللغة العادي. وربما يأتي أساس المشكلة من الخلط بيننا وبين المترجمين التحريرين، والحقيقة أن الإنكليزية وبعض اللغات الأخرى أوضحُ في التفرقة بيننا (interpreter مقابل translator). عِلمًا بأن تقييم الترجمة، تحريريةً أكانت أم فورية، حق طبيعي لكل مستخدم لها. فمهنة الترجمة، في نهاية المطاف، مثلها في ذلك مثل السياسة وكرة القدم، يتحدث عنها كثيرون ولا يمارسها ولا يفهمها إلا قليلون.

إذا حدث ذلك، فإنه يكون حينها مؤلفًا فوريًّا وليس مترجمًا فوريًّا. الصمت أنبلُ في هذه الحالة. ولو المسألة مسألة ربط، فعلى المترجم أن يستكمل الترجمة دون رابط إلى أن يستبينه من السياق، غالبًا ما يكون ذلك بعد لحظات، فيعوضه. أما أن يخترع من عنده، فهذا إثمٌ في دِين المترجمين.

أنا لم أتعامل مع الفضائيات من قبل، ولكن الترجمة على الهواء شاقة بالتأكيد. دعني أتحدث عما أعرفه، نحن في المنظمة نترجم سواء خارج الهواء أو على الهواء، لكن في إطار خدمة البث المباشر التابعة للمنظمة، ونترجم في اجتماعات مغلقة، ونترجم في البعثات – وأحيانًا تكون الأجواء عدائية، ونترجم عبر وصلات الفيديو، ونترجم لأشخاص يستخدمون لغة رنَّانة ولآخرين يتكلمون بلغة مغرقة في العامية.

لكل محطة أسلوبها ومفرداتها وسياساتها التحريرية التي قد تختلف عما هو متبع في الهيئات الدولية. كما أنه من المنطقي أن تفعل الفضائيات ذلك كي تستطيع أن تخضع مترجميها للمساءلة. وهناك كذلك بعد مهم وهو تعزيز الفضائيات بَصْمَتَها الصوتية لدى المشاهد. ولكن بعض المحطات تأخذ بالفعل من ترجمة المنظمة مباشرةً، وهو أمر مبدئيًّا لا يجوز إلا بإذن من الأمم المتحدة مراعاة للملكية الفكرية.

نعم، يحدث أحيانًا بالفعل، لكن الأصل ألَّا تكون متاحة. ففي حالة الأجزاء الرفيعة المستوى من الاجتماعات الكبرى، لا سيما تلك التي يحضرها رؤساء الدول والحكومات، جرت العادة على أن ترسل الوفود بياناتِها مكتوبةً. لكنه ليس إلزامًا وتظل العبرة بالبيان الشفوي. وينبغي التنبيه على أن النصوص المكتوبة قد لا تفيدك كثيرًا مع خروج المتحدث عن النص -وهو ما يحدث كثيرًا- أو مع السرعة الفائقة وحينها قد يكون النص مُعوِّقًا مع تفعيل ثلاث حواسَّ بدلًا مِنِ اثنتين في آنٍ واحد، وهو ليس بالأمر الهين ولكن يمكن -بل ينبغي- التدرُّب عليه. وعمومًا، الأصل هو الترجمة دون نَصٍّ.

لكل نوعٍ صعوباتُه. الترجمة المهموسة تحتاج إلى رهف السمع والقدرة على خفض درجة صوتك مع رفع مستوى الإنصات وعادة ما يواجه المترجم فيها صعوبات على مستوى هندسة الصوت، وفيها يمكنك إيقاف المتحدث للاستيضاح أو تخفيف السرعة بسبب موقع المترجم بجوار المتحاورين. أمَّا التتابعية، فتحتاج إلى تقوية ذاكرة المدى المتوسط وتعلُّم أساليب التدوين وإنشاء مختصرات الاختزال الخاصة بك وتطوير مهارات مخاطبة الجمهور. ثم تأتي الترجمة الفورية في المقصورة التي تكتسب صعوبتها من ضيق الوقت المتاح للتصرف وضرورة مواصلة الترجمة دون تلعثم أو توقُّفٍ، وغالبًا دون أن تكون لديك فرصة لإيقاف المتحدث، وهو ما يتطلب تدريبات ومهارة خاصة لكي تتمكن من حل تحديات الترجمة في أقل زمن تأخُّر.

دعني إذًا أغتنم هذه الفرصة لإكمال ما بدأناه في أُولى حلقات الحوار بشأن أساليب التدريب الأَوَّلي. فقد تحدثتُ عن الترديد وترجمة الجمل البسيطة واستخدام منصات الأخبار التي يمكن التحكم في سرعتها. ولكن تذكَّرْ، أنت بذلك لم تصبح مترجمًا بعدُ ولن تصبح مترجمًا بهذه التمارين فقط. هذه الأساليب تمثل التمرين الأوَّلي الأساسي لتتعلم كيفية الطفو على سطح المياه والتوافق بين ضربات ذراعيك وقدميك. لكنك لم تسبح بعدُ. فلا يزال أمامك أن تتعلم أن تسبح مسافات قصيرة، ثم مسافات طويلة، ثم تتعلم الغوص السطحي، ثم الغوص في الأعماق. والآن ردًّا على سؤالك، بالفعل من التدريبات المُغفَلة في مجالنا تدريب الصوت. حيث يكون التدريب منصبًّا على التنفس الصحيح وجلاء الصوت ودرجته وتشكيله وسلامة مخارج الحروف. وهي تدريبات يحصل عليها الإذاعيون أساسًا. ولكنها مهمة لنا أيضًا لصلتنا بالفِعل الإذاعي بشكل أو بآخر. لكننا لسنا مذيعي نشرة ولسنا معلقي كرة. فالتنغيم المتواصل والإثارة ليست لنا، بل يمكن أن تنقلب ضدنا إذا بالغنا فيها. وتأتي أهمية تدريب الصوت من أن الصوت جزء من فِعل التواصل. فبعض المعنى يُنقَل بالصوت لا بالكلمات فقط، والأثر يُنقَل عبر صوتك وأدائك. والصوت الجيد يمنح الثقة للمترجم ولجمهوره. وربما هو السبب في أنك قد تستمع إلى مترجمين اثنين كلاهما ينقل المحتوى على نحو ممتاز، ولكن أحدهما يُمتِّعك والآخر يُصدِّعك. وعمومًا هذا التدريب يندرج تحت بند النوافل لا الفروض.

نحن بالضرورة تحت المراقبة دومًا. فمستخدم الترجمة رقيبٌ على جودتها. وكذلك من مهام رئيس القسم/المقصورة أن يراقب ويتابع ويُقيِّم بحُكم وظيفته. ويمكن أن يطلب المترجم نفسه إلى زملائه ممن يثق في حُكمهم أن يقيِّموه من حين إلى آخر؛ فالتقييم جزء أساسي في عمل المترجم الفوري.

هذا سؤال مهم. من الطبيعي أن يتأثر المترجم بجوِّ الحديث وبالمتحدث. وجزء من الرسالة أن تنقل الانفعالات قدر الإمكان إلى المستمع غير القادر على النفاذ إلى لغة المتحدث الأصلي، وفَهْمها بما فيها من انفعالات كأن يكون غاضبًا أو ساخرًا أو ناقدًا. أمَّا في حالة البكاء والضحك (وليس المزاح)، فإننا نترك صورة المتحدث تتكلم. وإذا كان المتحدث متوترًا لحداثة عهده بمخاطبة الجمهور، فبالطبع لا نحاكيه.

وهذا لا يمنع أن بعضنا يتأثر أحيانًا لدرجة البكاء من سرد أحد الضحايا مآسٍي إنسانية مرَّ بها. ولكن ما يفعله معظمنا هو التحكم في مشاعره إلى أن ينتهي من الترجمة. وإن لم يستطع، فعليه أن يطلب إلى زميله أن يُكمِل مكانه حتى يهدأ. فنحن بشرٌ في نهاية المطاف.

بدأت المنظمات الدولية في الآونة الأخيرة تفطن للآثار الصحية الواقعة على المترجم الفوري بعد البعثات الميدانية المكثفة في مجال حقوق الإنسان، خاصة بعد التعرض لمآسٍ إنسانية وضغوط نفسية ناجمة عن وضع التوسُّط في البعثات الميدانية. فربما تتخيل أنك لست إلا وسيطًا لن يصيبك مكروه سوى التألم لفترة قصيرة لحالة الضحية. ولكن الحقيقة أن كل حالة تُحدِث فِينا نُدوبًا ينبغي التعامل معها سريعًا قدر الإمكان. وعليه، صرنا بعد البعثات المكثفة نعقد جلسات "تنفيس" مع مختصٍّ في المنظمة أو مع زميل موثوق تُفرِغ فيها ما حملتَه معك من هموم من هذه المهمة دون إفشاء أسرار العمل بالطبع. وأرى أن الأمر نفسه ينطبق على الزملاء في السوق الحرة ممن يترجمون في سياقات مشابهة. هذه المهنة ليست سهلة.

الحوار لم يكتمل بعد. انتظرونا في الحلقة المقبلة.

اقرأ أيضًا