بحكم عملي مترجمًا ومدرسًا للترجمة بعدد من الجامعات المصرية، كثيرًا ما يسألني طلاب الترجمة، بل كثير من الخريجين أسئلة من قبيل: ما الأفضل؟ الترجمة التحريرية أم الفورية؟ وأيهما أكثر دخلا؟ وأيهما أكثر راحةً في العمل؟ وما إلى ذلك.

وللإجابة عن تلك الأسئلة، يجب في البداية أن نعرف المصطلحين. ولنبدأ بالترجمة التحريرية translation، وتعني ببساطة نقل «النصوص» من لغتها الأصلية إلى لغة أخرى في صورة «نصيّة». وهذا أمر أظن ألا إشكال فيه. أما الترجمة الفورية simultaneous interpreting، فهي نوع من أنواع الترجمة الشفوية interpreting، وتُعنى بنقل الحديث الشفوي من لغة إلى أخرى في وقت التحدّث، مع تأخر يسير لا مناص منه يسمى lag، ولا يتخطى ثواني معدودة. ويمكن الاطلاع على بعض أنواع الترجمة الشفوية في هذه المدونة. إذا، فليكن حديثنا في هذه المقالة عن الفروق بين الترجمة التحريرية والشفوية من حيث المسار الوظيفي.

أيهما أفضل: الترجمة التحريرية أم الترجمة الشفوية؟

مبدئيًا، لا يوجد نوع أفضل من الآخر في حد ذاته. لكن قد يكون أحد النوعين أفضل لك أنت دون غيرك. وبناءً عليه، يعتمد اختيار النوع الذي تود التخصص فيه دراسيًا أو عمليًا على مواءمة ذلك النوع لطبيعة شخصيتك واحتياجاتك الخاصة.

هل الترجمة التحريرية والترجمة الشفوية مجالان منفصلان؟

يمكننا أن نقول ببساطة إن الترجمة التحريرية هي الأساس الذي تقوم عليه الترجمة الشفوية. ومن لم يمارس الترجمة التحريرية وبدأ بالترجمة الشفوية، فربما يواجه متاعب، أو على الأقل سيحتاج إلى فترات تمرين أطول نسبيًا. ففي الترجمة التحريرية يتدرب المترجم في تأن على مهارات الفهم والتعبير ونقل المعنى بدقة وبلغة صحيحة، ويُتاح له ما لا يُتاح في الترجمة الشفوية من فرصة للتفكير والأخذ والرد حتى يصل إلى أفضل ما لديه في كل مرحلة من مراحل تعلمه وممارسته.

هل الترجمة الفورية أرقى من الترجمة التحريرية؟

هناك فكرة خاطئة تمامًا شائعة عن الترجمة الفورية، خاصةً لدى غير المتخصصين في الترجمة؛ إذ يعتبرها البعض ذروة سنام المهارة في الترجمة. ويعتبر هؤلاء أن المترجم التحريري مترجم مبتدئ لم يكمل تعليمه أو ممارسته بعد، أو أنه أقل قدرة من نظيره الشفوي. وهذا يذكرني بالنكتة المصرية التي قدّم فيها أحدهم نفسه إلى آخر قائلًا إنه طبيب أطفال، فتعجب الآخر قائلًا: «ولماذا لم تكمل تعليمك يا ابني؟!» فالترجمة التحريرية تخصص في حد ذاته، ويتفرع منه هو الآخر تخصصات فرعية موضوعية كالترجمة القانونية والصحفية والأدبية وما إلى ذلك. وإذا كان المترجم الشفوي يُعنى بإنتاج ترجمة سريعة، فإنه يكون مترجمًا ناجحًا إذا حقق غاية التواصل الفوري بين الطرفين: المتكلم والسامع، وهو أمر ذو شأن عظيم طبعًا. أما المترجم التحريري، فتقع على عاتقه مهمة أخرى هي نقل العلوم والمعارف والآداب والقوانين والنصوص المقدسة، بل الحضارة كلها، ناهيك عن مهمة سك المصطلحات وابتداع التراكيب اللغوية الجديدة. ولا يكون مترجمًا تحريرًا ناجحًا إلا عندما يُنتِج نصوصًا في منتهى الدقة من حيث صحة المعنى وسلامة اللغة وغير ذلك من المعايير؛ إذ لا يُعذر بضيق الوقت أو رداءة صوت المتحدث أو سرعته الزائدة. والمترجم الفوري ليس بالضرورة مترجمًا تحريريًّا ناجحًا والعكس صحيح بالطبع. والخلاصة أن النوعين لهما أصل واحد، لكن كُلًّا منهما تخصص منفصل، وليس أحدهما بأفضل من الآخر.

نمط حياتك يحدد أي نوع تختار

إذا كنت ممن يحبون الجلوس إلى المكاتب ساعات طويلة ولا يرهقه ذلك، وإذا كنت ممن يَهْوُون المكوث في المنزل دون قضاء أوقات طويلة في وسائل المواصلات، وإذا كنت لا تعبأ بالتحديق في الأجهزة الإلكترونية، والبحث في القواميس والموسوعات، فالترجمة التحريرية تناسبك أكثر من الترجمة الشفوية. أما الأخيرة، فتستلزم الانتقال إلى أماكن قد تكون بعيدة والسفر ربما لساعات طويلة للغاية، وحضور المؤتمرات والفعاليات التي قد تكون محور حديث الإعلام، بل والمشاركة فيها بالطبع. وهذا أمر قد يكون محفزًا للبعض ومثبطًا للبعض الآخر. وقد يكون محفزًا في بداية المسار الوظيفي، مثبطًا بعد فترة؛ حيث يتحول إلى أمر رتيب ممل. وإذا كنت ممن يحبون أن يقضوا وقتا أطول نسبيًا في الاختيار والتدقيق والفحص والتمحيص، ويميلون إلى تهذيب أعمالهم وإخراجها في أروع صورة ممكنة، فمرةً أخرى، أنت ممن ينبغي أن يتخصص في الترجمة التحريرية دون الشفوية؛ فالأخيرة تعتمد على السرعة الشديدة في اتخاذ القرار، وعدم الندم عليه أيا كان.

القدرات البدنية والذهنية

تستلزم الترجمة الشفوية قدرة عالية على الإنصات بعناية، والتركيز الشديد مع التحدث بلغة مفهومة وصحيحة، ناهيك عن التحلي بسرعة البديهة. فمن لديه مشاكل في الإنصات أو النطق، ينبغي ابتداءً ألا يخوض غمار الترجمة الشفوية. أما الترجمة التحريرية، فتستلزم -كما سبق أن بَيّنَّا- القدرة البدنية على الجلوس فترات طويلة، ناهيك عن القدرة على العناية الفائقة بالتفاصيل والدقائق، والتقاط الأخطاء وتصويبها، والتفكير في النص وفيما وراءه من معارف، إضافةً طبعًا إلى مهارات البحث والتنقيب عن المعلومات، واستخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة كأدوات الترجمة بمساعدة الحاسوب CAT Tools. وكلها قدرات كامنة لا بد من استكشافها وإن كانت تتحسّن بالدربة والممارسة.

ما الأكثر راحةً في العمل؟ الترجمة التحريرية أم الشفوية؟

الإجابة عن هذا السؤال ترتبط ارتباطًا عضويًّا بالنقطتين السالفتين. فما هو مريح لشخص قد يكون مرهقًا لآخر. لكن هناك ملحوظة قد تُفيدك في اتخاذ القرار، وهي أن الجهد الذي يُبذَل في الترجمة التحريرية يكون موزعًا على عدد ساعات العمل. ويمكن للمترجم التحريري أن يأخذ قسطًا من الراحة ولو ثواني معدودة إذا استغلق عليه شيء أو شرد ذهنه دون إرادته. أما في الترجمة الشفوية، فيكون الجهد -جهد يوم العمل كله- منصبًا على عدد قليل جدًا من الساعات أو الدقائق، إذا طبقت المعايير المهنية السليمة. لكن مهلًا! في هذه الدقائق القليلة يعتصر المترجم الشفوي عقله، ويضغط ضغطًا شديدًا على حواسه حتى يخرج من كابينة الترجمة -في حالة الترجمة الفورية- منهكًا لا يقوى على الحديث حتى يسترد تركيزه. هذا فضلًا عن الضغط الإضافي الذي يسببه نقل الفعالية التي يترجم فيها عبر وسائل الإعلام أو الحساسية السياسية في حالة الترجمة لكبار المسؤولين، وخاصةً في الترجمة التتبعيّة التي يركز فيها كثير من الحاضرين -ممن يجيدون اللغتين- في صحة ما يقوله المترجم من عدمها، ويحكمون على مستواه من واقع معرفتهم قَلّتْ أم كَثُرَتْ. وكلنا يتذكّر مترجم العقيد معمر القذافي الذي انهار مغشيًا عليه في الأمم المتحدة بسبب طول خطبة الزعيم الليبي الراحل.

أيهما أكثر دخلًا للمترجم؟

في الحقيقة، لا يوجد نوع يُدرّ دخلًا أكبر من الآخر، خاصةً بعد اجتياز المترجم أولى سنوات خبرته. فقد يكون المترجم الشفوي الذي ينجح في العمل في ندوات أو مؤتمرات في بداية مسيرته المهنية أكثر دخلًا مقارنةً بالمترجم التحريري الذي يظل سنوات يتقاضى دخلًا أقل. لكن سرعان ما يستويان. فمع مرور الوقت، يتقاضى المترجم التحريري المحنك مرتبًا أكبر أو يشترط الحصول على أجر أعلى في عمله الحر. ولئن كان الأجر اليومي للمترجم الشفوي أعلى من الأجر اليومي لنظيره التحريري حتى في كبرى المنظمات الدولية (حسب معايير الجمعيتين الدوليتين المعنيتين بالأمر)، فالمترجم التحريري يعمل عادةً أيامًا أكثر ويترجم نصوصًا طويلة يتقاضى عليها دخلًا أكبر.

هذا في حالة العمل في المكاتب والشركات أو بنظام العمل الحر. أما في المنظمات الدولية، فعندما يُعين المترجم للعمل داخل المنظمة، هنا يتقاضى المترجمان أجرًا موحدًا لا يتغيّر بتغيّر التخصص، بل لا يتغيّر بتغيّر الوظيفة كلها، ما دامت وظيفة مهنية professional job حسب تصنيف تلك المنظمات.

إذا، يمكننا أن نقول، بعد هذا الاستعراض السريع، إن قرار التخصص في نوع من النوعين يعتمد على قدراتك واستعدادك ونمط حياتك. ولا مانع طبعًا من العمل في كلا النوعين معًا. وهناك أمثلة ناجحة كثيرة في هذا الأمر، بل هناك عدد كبير من المنظمات الدولية التي غدت تعيّن مترجمين تحريريين وشفويين في آن واحد.

وأخيرًا، أرجو أن تفيد تلك المقالة في رسم صورة لمستقبل العمل في مجال الترجمة. وفي حالة وجود أي استفسارات، فيمكن إرسالها إليّ من خلال هذه الصفحة، أو التعليق على منشور المقالة على الفيس بوك هنا.

اقرأ أيضًا