تتميز اللغة العربية بخصائص وسمات متفرِّدة، تفرض على المترجم الإلمام بها وممارستها كتابةً ومشافهةً قبل الخوض في غمار الترجمة من العربية أو إليها؛ إذ لا يُغفر للمترجم أن ينقل فكرة من لغة أجنبية إلى العربية وهي لا تزال ترتدي ثوبها الأجنبي، ما دامت العربية قادرة على التعبير عن تلك الفكرة بطريقتها الخاصة. وربما يكون الاستثناء الوحيد في هذا الصدد هو أن تكون اللغة المُتَرجَم منها قد طرقت بابًا جديدًا من أبواب الفكر أو العلم لم يسبق للعربية أن طرقته.

وهنا يجد المترجم نفسه بين خيارين: إما ”التقريب“ domestication وإما ”التغريب“ foreignization. ففي الأولى يبذل المترجم جهدًا للعثور على ما يقابل الفكرة الأجنبية في العربية، ويُضطر بالضرورة إلى التنازل عن نواحي الجِدة والحداثة والتفرُّد فيها تحقيقًا لهدف تقريب ذلك المعنى إلى ذهن القارئ العربي. والترجمة القانونية حافلة بالأمثلة في هذا المضمار؛ إذ إنها تقوم أساسًا على فكرة التكافؤ الوظيفي بين المصطلحات والمفردات والتراكيب، أي التقريب. غير أن المترجم القانوني ما يلبث أن يتعرض للعديد والعديد من المصطلحات والأفكار والمفاهيم القانونية التي بالضرورة تحفل بها اللغة المُتَرجَم منها دون أن يكون لها ما يقابلها على الإطلاق في اللغة المُتَرجَم إليها.

وهنا تبرز أهمية التغريب وضرورته؛ إذ يغدو واجبًا على المترجم أن يَصوغ بلغته العربية ما فَهِمه من اللغة الأجنبية مراعيًا قواعدَ العربية وأصولها نحوًا وصرفًا وأسلوبًا، بل يمتد الأمر إلى الدلالات غير المباشرة والإيحاءات الكامنة، لا في اللغة العربية عامةً فحسب، بل أيضًا في فروعها المستخدمة للتعبير عن النظم القانونية في كل بلد عربي يتحدثها على حدة.

ولنأخذ على ذلك مثالًا حتى تتضح الفكرة: في مصطلح drunk driving في الإنكليزية، لن يجد المترجم القانوني العربي صعوبةً تُذكر في إيجاد المكافئ الوظيفي لهذا المصطلح في اللغة العربية، ألا وهو مصطلح ”القيادة تحت تأثير مُسكِر“ الوارد في أحدث تعديلات قانون المرور المصري التي أُجرِيت في نوفمبر 2014، بافتراض أن قارئ النص المستهدَف مصري، أو أن قارئه العربي غير محدد. وهنا يكون المترجم قد استخدم نهج التقريب.

أما إذا صادفه مصطلح قانوني تجاري هو nominee shareholder على سبيل المثال، ويبدو للوهلة الأولى مصطلحًا تسهل ترجمته؛ إذ يتألف من كلمتين مألوفتين لدى أيِّ مترجم مبتدئ. لكنه في الحقيقة إنما يشير إلى وضع قانوني لا تتناوله الأنظمة القانونية الناطقة بالعربية تشريعًا أو دراسةً؛ ومن ثَم، يكون على المترجم فَهْم معناه بلغته الأصلية فَهمًا تامًّا أولًا، ثُمَّ سكُّ مصطلح جديد يُعبِّر عن ذلك المفهوم، مراعيًا قواعد الاصطلاح في العربية.

وتطبيقًا لهذا النهج على هذا المصطلح تحديدًا، وبعد الاطلاع على المَراجِع اللازمة التي تتناول معناه كما سيرد توًّا، نجد أن من بين المقترحات الملائمة لترجمته عبارةَ ”المُساهم الشكلي“؛ ذلك أن هذا المصطلح إنما يشير إلى وضع قانوني مستحدَث في النظم الأنجلوساكسونية، يلجأ فيه مؤسِّس ”شركات الواجهة“ shell companies -وهو بالمناسبة مصطلح آخر ينطبق عليه النهج ذاته- إلى استخدام اسم شخص ما ليكون بديلًا شكليًّا للمساهم الفعلي في تلك الشركة لأغراض، قد يكون منها ما هو قانونيٌّ، أو ما قد يكون لإخفاء الأموال المهرَّبة وارتكاب جريمة غسل الأموال.

وهكذا، يكون المترجم قد استخدم طريقة التغريب؛ حيث لا تعرف القوانين العربية ذلك المصطلح -حتى وإن كانت تعرف معناه ومدلوله- وليس من السهل، بل ليس من الصحيح، أن نُزاوِج بينه وبين مصطلح عربي مألوف مضحِّينَ بالمعنى الجديد والإيحاءات الكامنة في المصطلح الأجنبي، وهو ما يترتب عليه بالضرورة التضحية بالأثر القانوني للوثيقة موضِع الترجمة، بل تترتب عليه -بلا شك- مشكلة فنية تستعصي على الحل.

ولعل من المفيد أن نشير إلى ضرورة مبادرة المترجم بالاتصال بصائغ الوثيقة التي يترجمها والاستفسار منه عن فحوى ما يصادفه من مصطلحات جديدة، أو معانٍ مستحدثة لمصطلحات قديمة. ومن الجدير بالذكر أن ثمة مناقشات عميقة دارت بين كاتب المقال وصائغ إحدى الوثائق التي ورد فيها المصطلح السالف الذِّكْر أدلى خلالها الصائغ -عن طيب خاطر، بل بشعور ملؤه الامتنان- بما لديه من معرفة فنية أدت إلى إثراء عملية الترجمة، وأفضت في النهاية إلى ميلاد ذلك المسكوك الجديد وغيره. وهو نهج يُفضِّل أن يستخدمه المترجم -إن تسنَّى له ذلك- دون إغفال ما يصاحبه من اطِّلاع واجب وضروريٍّ على المَراجِع الفنية المكتوبة، التي لا ينبغي بحال أن تقتصر على المعاجم والقواميس كما قد يتبادر إلى ذهن المترجم المبتدئ.

وهكذا تكون الترجمة -سواء سلكت نهج التقريب أم التغريب- نشاطًا إبداعيًّا مرموقًا يُفضي في نهاية المطاف إلى إثراء اللغة، ومن ثَم الفكر الإنساني والحضارة البشرية برمتها.


اقرأ أيضًا