مسألة التدريب -خاصةً التدريب على الترجمة- مسألة معقَّدة وشديدة الأهمية وأصبحت شديدة الحساسية كذلك. ولكنني، اختصارًا للوقت، سأُجمِل الشروط التي أرى ضرورة توافُرها في عنصرها الأساسي، ألَا وهو المدرِّب، على النحو التالي:

أولًا: لا بد أن يكون المدرب متميزًا تميُّزًا ملحوظًا في مجال عمله الذي يُدرِّب عليه. وفي حالة الترجمة، لا بد أن يكون مترجمًا يُشار إليه بالبَنان، لا مجرد «مدرب ترجمة». ففاقِدُ الشيء لا يعطيه. وإن لم يكن المدرب مترجمًا متميزًا، فلن يكون إلا مثل بعض مدرِّبي التنمية البشرية الذي يدرِّبون المتدرِّب على أن يكون أنجحَ إنسانٍ في الوجود، في حين أنهم لا يستطيعون أن يكونوا كذلك. وفي مجال الترجمة خاصةً، يكاد يكون هناك مدرِّبون بعدد المترجمين.

ولا أعلم حقيقة السبب في ذلك، لكن لعل السبب هو أن المترجم عادةً ما يفرح بأي صيغة جديدة ابتكرها أو مصطلحٍ سكَّه، أو حتى معلومة تبدو له خفية، توصَّل إليها، فيسارع بنقلها إلى غيره فرِحًا منتشيًا. ويتطور الأمر فجأةً، فتراه يعلن عن عقْد دورات تدريبية دون أجر ثم بأجر، في حين لا تزال بضاعته قاصرةً على بضع معلومات متناثرة، أو أخرى ظنَّ أن غيره لا يعرفها. وهؤلاء لا ينكشفون عادةً إلا عندما يُقيِّم أداءَهم خبراءُ في المجال. وهم يستمرون في ممارسة نشاطهم؛ لأن معظم المتدرِّبين لا يتمتعون بالخبرة اللازمة للحكم على كفاءتهم؛ بسبب عيوب كثيرة تعتري نظامَ تعليم الترجمة والتدريب عليها لدينا.

لكن لا بد أن أستدرك هنا قائلا إن تبادل الخبرات بين المترجمين شيء عظيم ولستُ ضده أبدًا، بل إنني أتابع بعض صفحات مَن كانوا تلامذةً لي في الجامعة، وأتعلم منها الكثير. لكنني ضد إضفاء الطابع الربحي المحض على تلك الأنشطة الرائعة كما سأبيِّنُ لاحقًا، كما أنني بالطبع ضد انشغال صغار المترجمين بالتدريب وانجذاب أنظارهم إلى رونقه على حساب صقل مهاراتهم في الترجمة ابتداءً. ويكيفني هنا أن أذكر أنني سمعت مرة «مدربة» تملأ الدنيا ضجيجا تقول لجمهورها إن World Health Organization هي «هيئة» الصحة «الدولية»! هذا في مصطلح ثابت، فما بالنا بالتركيب والقواعد والمعاني والمفاهيم!

- ثانيًا: لا بد أن يكون المدرب ذا خبرة «طويلة زمنيًّا». فقد يكون مترجمًا متميزًا حصل على تعليم جيد، لكن العناصر التي لا تُكتسب إلا بالوقت -وهي كثيرة ومهمة- غير متوافرة فيه. والمدرب ذو الخبرة في الترجمة هو مَن يستطيع أن يعطيك معلومة عملية متكاملة مرت عليه بمختلف صورها، لا مجرد معلومة لم تمرَّ عليه إلا مرةً واحدة أو اثنتين، أو أخرى ليست له دراية بها إلا أنه قد قرأها في مصدر ما. وأزعم أنه لا يُدرِّبُ على الترجمة إلا مَن عمل فيها مدةً لا تقل بأي حال عن خمس سنوات. وتزيد المدة بتعقُّد المجال الفرعي داخل الترجمة، كالترجمة القانونية.

أمَّا المعلم، فقد لا يحتاج إلى تلك الفترة عادةً؛ لأن وظيفته الأساسية -كحالة المعيد أو المدرس المساعد في الكليات- إعطاءُ المعلومات وتبسيطها، في حين يُعنَى المدرب بصقل مهارات المتدربين، والأخذ بأيديهم نحو حل مشاكل محددة بأساليب مختارة، مع ملاحظتهم أثناء ممارسة حلها بأنفسهم وإعطائهم التوجيهات العملية وغير ذلك.

- ثالثًا: لا بد أن يكون المدرب قادرًا على تبسيط المعلومة، وعرضِها عرضًا جذابًا غير ممل. وهذه مسألة لا داعي لشرحها لأنها بديهية، وإن كان بعض المتدربين لا يلتفتون إليها، ويظلون يتابعون المدربين الذين لا تتوافر فيهم تلك الميزة لمجرد أن لهم أسماء كبيرة صنعها آخرون لهم؛ إمَّا لقلة خبرتهم، وإمَّا لمصلحة شخصية لديهم.

- رابعًا: لا بد أن يكون دافعُ المدرب الأساسي هو النفعَ لا الربح. والربح لا عيبَ فيه، لكن لا بد أن يكون هدفًا ثانويًّا فحسب. وهذه مسألةٌ أخلاقية لا تنفصم -في رأيي- عن المسائل المهنية لأن لها انعكاسات عليها.

- خامسًا: لا بد أن يكون المدرب صادقًا في وعده للمتدرب؛ فيُبيِّن من الوهلة الأولى أهدافَ التدريب المتوقَّع تحقيقها؛ فلا يحلِّق بهم في السماء في إعلانه عن التدريب أو عند تقديمه، ثم يُفاجَؤُون في نهاية التدريب بأن أقدامهم لم تبرح مواضعَها التي كانت عليها في بدايته.

- سادسًا: لا بد أن يلتزم المدرب بدوره بوصفه مدربًا لا معلمًا. فلا بد أن يكون تدريبه تدريبًا عمليًّا أو شرحًا مبسَّطًا لمعلومات يصعُبُ الحصول عليها، على ألَّا يطغى عرضُ المعلومات على استخدامها عمليًّا. فالتدريب الذي يكتفي بسرد المعلومات التي تجدها بسهولة في الكتب والمراجع لا فائدة تُرجى منه. ومن هنا يستمد التدريب ميزتَه مقارنةً بالتعليم.

وأخيرًا، عزيزي المتدرب، ضعْ تلك المعايير نصبَ عينيك قبل أن تسجِّل في أي دورة تدريبية، خصوصًا تلك التي تَعِدُك بإتقان مجال ما من المجالات الفرعية في الترجمة أو غيرها. واعلم أن التدريب لساعات معدودة، مقابل مئات الدولارات أو ما يعادلها، غير كافٍ في إكسابك المهاراتِ اللازمةَ في أي مجال، اللهم إلا إذا كان الهدف المعلَن والصريح والمتفَق عليه هو «مجرد» التعريف بذلك المجال. فالهدف الوحيد الذي يمكن أن تحققه تلك الدوراتُ الخادعة هو تحقيق الربح السريع لمقدمي تلك الدورات والقائمين عليها في حين تخسر أنت مالك ووقتك وجهدك.