أن يكتب مترجِمٌ مثل تلك المقالة يجعله أمام خيارين: إمَّا أن يدغدغ مشاعر المترجمين بقوله إن الترجمة الآلية لا ولن تحل محلهم في يوم من الأيام، وإنها لا تعدو كونها غثاءً يضرُّ أكثر مما ينفع، وإن على المترجمين أن يتصدوا لها. فيتداول المترجمون المقالة بكثرة، وربما يخلع عليه بعضهم لقب حامي حِمَى المترجمين؛ وإمَّا أن يتناول المسألة تناولًا موضوعيًّا بإبرازِ مناقب الترجمة الآلية ومثالبها، واستكشافِ فُرص الاستفادة منها، وعرْضِ تقديره الشخصي للموقف إزاءها. وقد اخترتُ النهج الأخير. لذلك، أتوقع أن تصدم هذه المقالة مَن توقَّعوا اتباع النهج الأول.

مقدمة

مَن منا لم يتندر يومًا ما على نواتج الترجمة الآلية المضحكة التي يلجأ إليها غير المتخصِّصين في الترجمة كي تسعفهم في ترجمة كلمات أو عبارات؟ والحقيقة أن تلك هي الصورة الذهنية التي لا تزال راسخةً في أذهان كثير من الناس، ومنهم كثير من المترجمين. غير أن غالب المترجمين لا يزالون يرونها منافسًا غير شريف لهم، ويجزم بعضهم أنها ستحلُّ محلهم يومًا ما، في حين يؤكد آخرون أنهم غير قابلين للإبدال، ولو بأحدث التكنولوجيات.

فهل يمكن حقًّا أن تحل تقنية الترجمة الآلية -وأدقُّها وأشهرها ترجمة غوغل Google (وهو ما سأشير إليه اختصارًا باسم «ترجمة جوجل»)- محلَّ المترجم البشري؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما السبيل إلى التصدي لهذا الأمر أو التعايش معه؟

بداية الترجمة الآلية وتطورها

بدأت ترجمة جوجل في عام 2006، معتمِدةً على الطريقة الإحصائية Statistical Machine Translation، ثم تطورت تطورًا كبيرًا اعتبارًا من سنة 2016 عندما استُخدِمَت طريقة الترجمة الآلية العصبية Neural Machine Translation. ويستفيد من الخدمة يوميًّا نحو 500 مليون شخص حول العالم، منهم بالطبع عددٌ من المترجمين كما سنوضح.

وقد استفادت الخدمة العربية في ترجمة جوجل استفادةً هائلةً بالحصول على نصوص وثائق الأمم المتحدة ودراستها جيدًا، واستخدامها في إنتاج الترجمة الآلية المقترحة. ونظرًا إلى ضخامة عدد الوثائق المقدمة (وقوامُها حوالي 100 مليون كلمة)، تحسَّنت الخدمة تحسُّنًا كبيرًا، وأصبح من المجدي استخدامُها في ترجمة أي عبارة من وثائق الأمم المتحدة، أو أي عبارة على نَسَقها والحصول على نتيجة مُرْضِية أو مُرْضِية للغاية. وهذا ما سنناقشه بالتفصيل لاحقًا.

بعد بداية انتشار الترجمة الآلية، وزيادة عدد مستخدميها، ابتكرت المنظمة العالمية للمِلْكية الفكرية أداة للترجمة الألية وأَسْمَتْها TAPTA. وكان الغرض منها ترجمة براءات الاختراع ذات العبارات المتكررة والطبيعة النمطية داخل المنظمة. وفي سنة 2011، بدأ التعاونُ بين الأمانة العامة للأمم المتحدة والمنظمة، وقد أثمر في نهاية المطاف أداةَ ترجمةٍ آلية تُعرَف بـ TAPTA4UN. ويستخدمها مترجمو الأمانة العامة للأمم المتحدة حاليًّا في جميع مراكز العمل وبعض المنظمات التابعة لمنظومة الأمم المتحدة ضمن أداة أكبر هي e-Luna، وهي خليط من برامج الترجمة بمساعدة الحاسوب CAT Tools والترجمة الآلية. ومن المخطط أن تتطور تطورًا كبيرًا في السنوات المقبِلة، وأن يُعمَّم استخدامُها في جميع وكالات الأمم المتحدة المتخصصة. لكنها مقصورة على موظفي الأمم المتحدة الداخليين والخارجيين، وغير متاحة للجمهور.

أمَّا في قطاع الأعمال، فلما كان المحرِّك الرئيسي لشركات الترجمة هو الربحَ، وهو ما يتحقق ضمن ما يتحقق بزيادة الإنتاجية، فقد بدأ كثير من الشركات فِعليًّا في استخدام الترجمة الآلية وتكليف المترجمين بتحرير الناتج، فيما أُسمِّيه باللغة العربية تحرير الترجمة الآلية post-editing. وقد أدى ذلك إلى زيادة كبيرة في الإنتاجية، خاصةً لدى الشركات التي يكثر عملها في النصوص ذات الطبيعة النمطية. لكن من الجدير بالملاحظة أن كبرى شركات الترجمة في العالم، وهي شركة Transperfect، لا تزال تقدم خدمة الترجمة البشرية العادية إلى جانب تقديمها خدمةَ الترجمة الآلية عبر موقعها. وقد ساهم في انتشار استخدام الترجمة الآلية في قطاع الأعمال تقديمُ شركة جوجل خدمةَ API، التي تتيح دمج الترجمة الآلية في برامج الترجمة بمساعدة الحاسوب، أي إن البرنامج الإلكتروني يبحث في الذاكرة المتوافرة عن الجملة المطلوبة ترجمتها، فإذا لم يجد، فإنه يستعين بترجمة جوجل ويتولى المترجم تحريرها. وهناك شركات أخرى تقدم الخدمة نفسها، منها شركة مايكروسوفت، وهي خدمة مدفوعة الآجر. هذا إضافة إلى تحسين ترجمة جوجل بإمكانية إضافة المستخدم ذاكرات الترجمة البشرية والحصول على ترجمة مسترجعة وآلية معا دون تكلفة. ومن الجدير بالذكر أن شركات الترجمة ليست صاحبة مصلحة، كما يتصور البعض، في تعميم استخدام الترجمة الآلية؛ لأن إتاحة استخدامها للجميع ستيؤدي بالطبع إلى تقليل الاعتماد على الترجمة البشرية أو الآلية البشرية التي تقدمها حتى وإن كانت ستعوض ذلك بالاستغناء عن عدد من المترجمين.

واعترافًا بهذا الاتجاه المتزايد، وضعت المنظمة العالمية لتوحيد المقاييس (ISO) المعيار رقم ISO 18587:2017 الذي يعدد معايير الجودة في تحرير الترجمة الآلية.

هل يمكن الاعتماد على الترجمة الآلية في إنتاج ترجمة جيدة؟

الإجابة عن هذا السؤال تستلزم التفرقة بين أربعة عوامل:

العامل الأول نوع النص المراد ترجمته. فإذا كان النص حافلًا بالأرقام والعبارات القصيرة ذات التراكيب الواضحة، الخالية من الصور البلاغية وسائر الأساليب غير المباشرة، مثل كشوف الحسابات المصرفية أو الفواتير أو البيانات الإحصائية كأسماء البلدان المصحوبة بأرقام، أو كان أقربَ إلى لغة معظم وثائق الأمم المتحدة للسبب الذي ذكرناه سابقًا (وهو ما سأشير إليه اختصارًا باسم «النصوص البسيطة»)، فيُتوقَّع أن تنتج الآلة ترجمة مقبولة إلى حد بعيد؛ فلا تستلزم سوى مجهودٍ قليل في تحريرها. وفيما يأتي مثالٌ على ذلك:

The strategy development process should use the best available knowledge, expertise, and data.

الترجمة الآلية: «يجب أن تستخدم عملية تطوير الإستراتيجية أفضل المعارف والخبرات والبيانات المتاحة.»

وكما يتضح في هذا المثال، لا يتدخل المترجم إلا تدخلين أو ثلاثة تدخلات فقط؛ كي تخرج الترجمة على نحو مُرْضٍ. والجملة المذكورة في المثال ليست من وثائق الأمم المتحدة، لكنها قريبة الشبه بها. وهذا يعني توفير الكثير من الوقت والجهد في الترجمة.

أما هذا، فمثال من وثيقة لإحدى المنظمات الدولية:

After my miscarriage, I poured over the research which shows that a majority of women report experiencing feelings of shame, self-blame and guilt following pregnancy loss.

الترجمة الآلية: «بلدي بعد الإجهاض، وسكب على الأبحاث التي تظهر أن غالبية النساء عن مشاعر تعاني من الخجل، واللوم الذاتي والشعور بالذنب بعد فقدان الحمل.»

ويتضح منه أن النص، وإن كان من وثيقة دولية، فالترجمة الآلية قاصرة عن التعامل معه نظرًا إلى طريقة صياغته.

وفيما يلي مثالٌ آخر: وهو من نص أدبي كان موضع مسابقة الأمم المتحدة للترجمة لعام 2019:

The skanky shorts and t-shirt combo was wrong for a place where stooped men of advancing years gently vacuumed red velvet sofas as beautiful people in sharply cut waistcoats delivered morsels of sharply cut sandwiches to bored diners

الترجمة الآلية: «كانت السراويل القصيرة والقمصان القصيرة التي شيرتات على خطأ في المكان الذي كان فيه الرجال المنحدرون من سنوات متقدمة يتخلصون من الأرائك المخملية الحمراء برفق ، بينما كان الناس الجميرين الذين قاموا بقص الصدور بقصّة حادة يسلمون لوائح من السندويشات المقطوعة.»

ويتضح طبعًا من الترجمة الآلية الأخيرة أنها تستلزم جهدًا كبيرًا في ضبط معانيها وصياغتها نظرًا إلى طبيعة النص، بل قد يستلزم الأمر إعادة كتابتها برمتها. ولهذا، يمكن القول إن الترجمة الآلية هنا لا تزال قاصرة عن ترجمة هذا النوع من النصوص قصورًا يجعل من الاستغناء عنها أجدى.

أمَّا العامل الثاني، فهو كفاءة المترجم. فالمترجم غير الضليع في الترجمة لن يستطيع التعامل مع النص المترجم آليًّا تعامُلًا احترافيًّا. أي إنه سيكون معرَّضًا لقبول الترجمة المقترحة، حتى وإن كانت رديئة، ولن تمكِّنه مهارتُه المتواضعة من إجراء التعديلات المطلوبة. وذلك لأن الترجمة الآلية تُعتبر «مترجِمًا»، في حين يُعتبر المترجِم البشري «مراجِعًا» مبدئيًّا لها. ولهذا، لا يُوصَى، بل لا يصِحُّ، أن يستعين المترجمُ المبتدئ بالترجمة الآلية.

وأمَّا العامل الثالث، فهو الزوج اللغوي واتجاه الترجمة. فمن المعروف أن هناك علاقةً طرديةً بين التشابه في اللغتين وجودة الترجمة. ويعتمد جوجل -حتى الآن- على تمرير الترجمة عبر اللغة الإنكليزية. أي إنك إذا استخدمتَ الخدمة لترجمة نَصٍّ من اللغة الفارسية إلى العربية، فإنه سيمر على الإنكليزية أولًا.

وأمَّا العامل الرابع، فهو الإلزام باستخدام الترجمة الآلية من عدمه. فبعض المؤسسات تُلزِم المترجم باستخدامها وتحرير ناتجها. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فللمترجم الحرية في استخدامها أو تَرْكها.

هل ستحل الترجمة الآلية محل المترجم البشري؟

دعونا في البداية نطرح سؤالًا: هل أدى ابتكار برنامج أوتوكاد الشهير عام 1982 إلى الاستغناء عن مهندس المكتب الفني؟ مبدئيًّا، كان هناك تخوُّف من ذلك في بداية الأمر، خاصةً أن البرنامج قادر على إعطاء مقترحات جاهزة لتصاميم المباني، لكن الواقع الحالي يقول إن البرنامج المذكور لم يصبح سوى أداة طيِّعة يستفيد منها المهندس استفادةً كبيرةً أغنته، ووفَّرت عليه عناء الرسم الهندسي بالقلم الرصاص على لوحات كبيرة للغاية وتعديل الرسم مراتٍ عديدةً. فإذا كان الأمر كذلك في عملٍ أكثرَ تقنيةً من الترجمة، التي تنطوي على قدر كبير من الدلالات الصريحة والخفية والإحالات الثقافية والنبرات والمفردات والصياغات المختلفة باختلاف المقام، فهل تتصور أن تحل الآلة محل البشر تماما في هذا العمل؟

أتصور ألَّا يحدث ذلك إلا إذا تحوَّل الإنسان نفسه إلى آلة، كأنْ تحل محل عقله البشري شريحةٌ إلكترونيةٌ على نحو ما شاهدناه في شخصية آدم في أحد فصول مسرحية الهمجي. وحينئذٍ لن يكون هناك مجال للأدب ولمهارات الكتابة بكل صورها وأشكالها. لكن إلى أن يحدث ذلك، ولا أظنه سيحدث بهذه الصورة، ستظل وظيفة المترجم البشري قائمةً ما دام التنوع في اللغات والتخصصات والآداب والفِكْر. والتنوُّع سُنَّة كَوْنية، لا عارِضٌ سرعان ما يختفي بمرور الوقت.

ولا مبرِّرَ للخوف من أن يستخدم غير المتخصِّصين الترجمة الآلية بدلًا من المترجم؛ لأن استخدام الشخص العادي أحدثَ برامج التصميم أو الرسم لا يجعل منه مُصمِّمًا أو رسَّامًا. ومَن لا يدرك ذلك، فسيتحمل بالتأكيد تَبِعات عدم إدراكه.

إذًا، كيف سيعمل المترجم في ظل تطوُّر الترجمة الآلية؟

ما أتوقعه، ويتوقعه كثيرون، أن تتغير طبيعة عمل المترجم الذي يترجم النصوص البسيطة، بأن يصبح محرِّرًا للترجمة الآلية post-editor ومحرِّرًا للنص الأصلي pre-editor لتجهيزه للترجمة. وعمومًا، لن يؤدي تحول عمل المترجم في ظل الترجمة الآلية إلى إلغاء دور المُراجِع أو مراقب الجودة أو الخبير الذي يعطي رأيه الفني في موضوع الترجمة التخصصية. أمَّا في حالة النصوص الأدبية والدينية والتراثية وما شابهها، فسيبقى عملُ المترجم كما بَقِيتْ وظيفة الرسام الذي تُدفَع آلاف أو ملايين الدولارات في لوحاته التي أبدعها بيده، رغم توافر برامج الرسم وسهولة استخدامها.

مزايا الترجمة الآلية وعيوبها

الترجمة الآلية، مثلها مثل أي تكنولوجيا، تأتي بمزاياها وعيوبها معًا. ومن مزاياها زيادة إنتاجية المترجم. وهي ميزة يستفيد منها الجميع: المترجم والعميل والمؤسسات الوسيطة إن وُجِدت. وهي ميزة، عندما تُقرَن بتقنية الترجمة بمساعدة الحاسوب، كفيلةٌ بتحقيق قدر كبير من الاتساق في العمل. ولا بد هنا من الإشارة إلى نقطة مهمة للغاية، وهي أن الترجمة الآلية ليست آلية في أصلها، بل هي مقاطع مترجمة ترجمةً بشريةً مجمعة من عدة مصادر. والآلي هنا ليس إلا تحليل النص وفَهْمه آليًّا، وتجميع مقاطع الترجمة ووضعها في شكل جُمَلٍ. واستخدامُ الآلة، وتغذيتها بمزيد من الترجمة البشرية أو الآلية المحرَّرة والمراجعة الجيدة، كفيلٌ بزيادة جودتها مع مرور الوقت.

أما عيوب الترجمة الآلية، فمنها أنها لا تصلح وحدها لإنتاج ترجمة موثوق فيها، وإن كان النص بسيطًا. مرة أخرى، لا ينبغي، بل لا يصح، أن يُعتمَد على الترجمة الآلية وحدها دون تدخُّل بشري لإخراجها في صورتها النهائية. فمع وضوح السياق وتحديد المجال وغير ذلك من العوامل المساعدة، لن تصبح الآلة قادرةً قُدرةً تامةً على فَهْم لماذا أورد الكاتب لفظةً ما دون غيرها، أو لماذا خرج عن السياق المحدَّد لسبب ثقافي أو مرتبط لحظيًّا بمَقَام كلامه أو جمهوره. والأمثلة على ذلك لا تُعد ولا تُحصَى. وقد كتبتُ في هذا الموضوع مقالةً شارِحةً للهدف من الترجمة بوصفها محددًا لاستراتيجيتها تحت عنوان: «لماذا نترجم؟».

استخدام الترجمة الآلية في مرحلة الدراسة

لاحظتُ بحُكم عملي في تدريس الترجمة أن بعض الطلاب يستخدمون الترجمة الآلية في ترجمة النصوص التي يُكلَّفون بترجمتها. ولا بد أن أوضح بلا مواربةٍ أن هذا تصرُّفٌ خاطئ تمامًا؛ لأنه يحرمهم فرصة التفكير الحر وتطبيق نظريات الترجمة التي يَدرُسُونها. فممارسة الترجمة البشرية تصقُلُ مهارة المترجم وتمرِّنه على التعامل مع مختلف المفردات والتراكيب والأفكار، ومن ثَم، تجعله -إذا استخدم الترجمة الآلية فيما بعدُ- قادرًا على تحريرها بوصفه مراجِعًا لا مترجمًا كما أوضحنا سابقًا. فلا يصح أن يراجع الترجمةَ مَن لم يمارسها مترجِمًا على مدى سنوات. وتستثنى من ذلك بالطبع مقررات تحرير الترجمة الآلية التي أتوقع أن تصبح جزءا أساسيا من مقررات الترجمة في الجامعات قريبا، وإن كان من الأفضل أن تظل في البداية في مرحلة الدراسات العليا أو برامج التعليم المستمر.

هل المترجم الذي يستخدم الترجمة الآلية مترجم ضعيف؟

كان هذا هو التصوُّرَ في السابق، وكان تصورًا مبرَّرًا نظرًا إلى ضعف الترجمة الآلية حينئذٍ. لكن طريقة تنفيذنا مهامَّنا اليومية كافةً قد تغيرت، وأصبحت هناك ضرورة ماسَّة إلى زيادة الإنتاجية وتحقيق الاتساق ومواكبة العصر. واستخدامُ الآلة في الترجمة قد أصبح أمرًا لا مفرَّ منه، لا بسبب مزايا الترجمة الآلية التي أوضحناها فحسب، بل الأهم لأن التطور التكنولوجي قد أصبح المسيطرَ على حياتنا شِئْنا أم أَبَيْنا. وتذكَّرْ أن كثيرًا مما رفضناه أو تخوَّفنا منه في السابق، أصبحنا نقبله اليوم مستحسنين أو مستنكرين مضطرين. وتقنية الترجمة الآلية تسير حاليًّا في اتجاه التجويد. وإذا كنتَ قد جربتَ ترجمة شيء ما آليًّا منذ سنة واحدة أو حتى عدة أشهر، فلتجرِّبْ الآن ترجمته آليًّا مرة أخرى كي تدرك تلك الحقيقة التي لا يمكن إنكارها.

واستخدامُ الآلة في الترجمة أصبح إلزاميًّا في مؤسسات كبرى على رأسها الأمم المتحدة. وسيتوسع هذا الإلزام بلا شكٍّ ليشمل جميع القطاعات. والمترجمون في المنظمات الدولية -وأغلبهم من ذوي الكفاءة العالية- يتعاملون مع الترجمة الآلية على أنها ترجمة مترجِمٍ عليهم مراجعتها من الألف إلى الياء.

ومن هنا يمكن أن نقول إن المترجم الذي يستخدم الترجمة الآلية، بعد أن يملك أدوات الترجمة البشرية ويجيدها إجادة تامة ترفعه إلى درجة مراجع الترجمة الضليع، ليس مترجما ضعيفا، بل هو مترجم مساير للعصر.

ماذا يفعل المترجم إزاء الترجمة الآلية؟

الترجمة الآلية أداةٌ على المترجم أن يُحسِن استخدامها، وإن لم يُفضَّل ذلك، ما لم يكن مضطرًّا إليه. ومثل الترجمة الآلية كمثل القاموس، لكنه قاموس متقدِّم يناسب العصر. ومثلها مثل برنامج «فوتوشوب»، الذي لا يستفيد منه أتمَّ استفادة إلا المصمِّمون أصحاب الذوق الرفيع والموهبة الكامنة والمهارات المصقولة. ولما كان التحول الآلي سيصحبه بالتأكيد الاعتماد على عدد أقلَّ من المترجمين لتحرير الترجمة، فهذا أدعى إلى أن يُطور المترجم أداءه، وأن يزيد من إنتاجيته، وأن يتميز بشدة في مستوى الجودة البشرية الذي يقدمه. والمترجم الذي لا يستخدم جميع الأدوات التكنولوجية، أو على الأقل معظمها، سرعان ما سيتحول إلى صانع طرابيش في القرن الحادي والعشرين وما بعده. وأمَّا المترجم الكسول الذي يستخدم الترجمة الآلية، ولا يُضفِي عليها كثيرًا من بَشَريته، فلن تكون الآلة في حاجة إليه بعد ذلك في ظل سرعة وتيرة تطورها. إذًا، نحن أمام مرحلة فرز!

لكن على المترجم وجميع المعنيين بالترجمة، علمًا وممارسةً، ألَّا يكُفُّوا عن إيضاح أهمية دور المترجم البشري، وأن يوجِّهوا أنظار الغافلين أو المتغافلين إلى العمل غير الآلي غير القابل للإبدال الذي يؤديه المترجم، وإلى فداحة الخسائر المادية والأدبية المترتبة على اتجاه بعض غير الأَكْفاء إلى الاكتفاء بالترجمة الآلية.

[يُمكن في هذا الصدد الاطلاع على المقالة التالية: حين كلَّفنا خطأ في الترجمة ملايين الدولارات]

الخلاصة

خُلاصة القول أن على المترجم المتمرِّس، بل المراجع الضليع، لا المبتدئ أو طالب الترجمة، أن يُروِّض الترجمةَ الآلية، وأن يستفيد من مزاياها أقصى استفادة ممكنة، باعتبارها عاملًا مساعدًا له لا منافِسًا سيحل محله. فالواقع يقول إنه لا مفر من ذلك في ظل ذلك التغوُّل التكنولوجي.

وفي الختام، أرجو أن تكون تلك المقالة قد عرضت جوانب المسألة عرْضًا موضوعيًّا، وإن لم تَخْلُ من تقدير شخصي أسَّسْتُه على دراستي الترجمةَ وتدريسي إياها، وممارستها على مدى سنوات طويلة. ولعلها تكون نواة للمناقشة الموضوعية الجادة في هذه المسألة الشائكة. ولهذا، أرحِّب بكل الآراء والتعليقات.

اقرأ أيضًا