حكاية وطُرفة ومعلومة

أنترجمها «المحكمة الخاصة للبنان» أم «المحكمة الخاصة بلبنان»؟

في أعقاب اغتيال رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري في عام 2005، طلبت حكومة لبنان إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إنشاء محكمة دولية للنظر في القضية. وفي عام 2007، صدر قرار مجلس الأمن 1757 القاضي بإنشاء Special Tribunal for Lebanon أي «المحكمة الخاصة للبنان» حسب الترجمة الرسمية.

عندما قرأتُ الترجمة أولَ مرة، وكنتُ حينئذٍ في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، استغربتُ الصيغة (أي صيغة «للبنان»)، لكن سرعان ما أدركتُ المقصود بعد مناقشة مع واحدة من كبار المراجعين في دائرة الترجمة بالمنظمة. فلو قلنا «المحكمة الخاصة بلبنان» لضاع معنى Tribunal التي تعني محكمة خاصة (والتخصيص هنا أدقُّ من ترجمتها بكلمة «محكمة» منفردة)، وخصوصًا أن لها صفة Special. والمعنى الذي يُفهَم من «المحكمة الخاصة بلبنان» أنها المحكمة التي تخصُّ لبنان، وقد تكون ترجمتها العكسية Court of Lebanon (والمعنى مختلف لغةً وقانونًا أيضًا)؛ إذ إن عبارة «الخاصة بـ» شائعة في الكتابة العربية المعاصِرة بمعنى of الإنجليزية. وقد يفهم منها كذلك أنها محكمة خاصة يقع مقرها في لبنان. وهو معنى خاطئ تمامًا أيضًا؛ إذ إن مقر المحكمة يقع في لاهاي بهولندا. وأمَّا «المحكمة الخاصة للبنان» أي ترجمة الأمم المتحدة الرسمية، فتعني المحكمة الخاصة Special Tribunal المعنية بلبنان.

لكن الغريب أن المحكمة نفسها لم تقتنع بالترجمة الرسمية الصحيحة جدًّا كما أوضحتُ. واختارت لنفسها اسم «المحكمة الخاصة بلبنان» بالمخالفة لقرار مجلس الأمن والاتفاق الموقَّع بين حكومة لبنان والأمم المتحدة، بل للنظام الأساسي للمحكمة نفسه، وهو نص بالغ الخطورة، إذ إنه بمنزلة شهادة ميلاد المحكمة. ولربما كان السبب في ذلك ظنُّ القائمين على الترجمة بالمحكمة أن ثمة توارُدًا بين «الخاصة» وحرف الباء دون اللام. وهو أمر صحيح لولا أن المعنى مختلف تمامَ الاختلاف. وهكذا، أصبح للمحكمة اسمانِ، أحدُهما تستخدمه الأمم المتحدة في وثائقها ويَرِدُ في نظام المحكمة الأساسي، وآخرُ تستخدمه المحكمة التي تمرَّدت على الاسم الذي أعطاه لها مَن أنشأها عند ولادتها.

وربما كان من الأَوْلى، تجنُّبًا لأي التباس، تسمية المحكمة «محكمة لبنان الخاصة»، لا سيما أن لفظ لبنان مذكر، فلا إشكال هنا، أو «المحكمة الخاصة المعنية بلبنان». لكن المترجم الأول، وهو مترجم قدير أعرفه شخصيًّا، لم يكن يتوقع بالطبع أن تجادل المحكمة في اسمها بهذه الطريقة.

ومن الطريف أن مناقشة دارت بيني وبين أحد كبار المترجمين في المحكمة آنذاك. وفي أثنائها، سألني فجأة عن رأيي في اسم المحكمة. فسارعت شارحًا وجهةَ النظر المتقدِّمة بكل حماس وتلقائية، وذكرتُ وجوب استخدام اللفظ الذي ورد في النصوص الشارعة حتى لو اختلفنا معه (وهو قاعدة أساسية من قواعد ترجمة وثائق الأمم المتحدة). ولم أكن قد لاحظتُ بعدُ أنه قد غيَّر اسم المحكمة للتوِّ. فنظر إليَّ متوجِّسًا، وغيَّرَ الموضوع فورًا دون أن ينبس ببنت شَفة. ولم تمرَّ أيام حتى عرفت أنه أوقف إجراءات تعاقُدي مع المحكمة، إذ كنت أتأهَّبُ للعمل بها فترةً ما. ومن الواضح إنه أراد تجنُّب وجع الرأس المتوقَّع. والحقيقة أنني حمدتُ الله على أنني لم أعمل معه وتحت رئاسته. فلك أن تتخيَّل ما قد يحدث إذا صادفتنا مسائل مشابهة، وهي كثيرة، خاصةً تحت ظروف العمل الضاغطة. لكن لم تمضِ أيامٌ حتى تعاقدتُ مع هيئة دولية كبرى أخرى تتَّخذ من لاهاي بهولندا مقرًّا لها أيضًا، وبمبادرة منها. وأصبحتْ تلك القصة مجرد طُرفة، أتعجَّبُ وأبتسمُ كلما تذكرتُها.