Scientific and Medical Translation

في الترجمةِ الطبية (تسبقها العلمية!) ومنازل المترجمين بين الادعاء والابتلاء!

كتب الأستاذ الدكتور محمد فوزي الغازي:

بعد تخرجي في الكلية (وليس من!) في عام 2000 م (علماً أن "من" لا تجوز إلا في حالة واحدة تتعلق بإعادة تصريف الفعل قبلها على نحو معين!)، وكنت قد أنهيت سِنِىَّ دراستي في قسم اللغة الإنجليزية (ومن قبلها كنت قد أمضيت أكثر من عام في قسم اللغة العربية كذلك!).. أصبحت طالباً للدراسات العليا بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة، ساعيا إلى الدراسات العليا في الترجمة واللغويات، مستهدفا كبار الأساتذة حينها ورأسهم أبي وأستاذي أ.د محمد عناني أطال الله بقاءه، وهو ما قدره الله وزاده...كنت حينها، وقدري أن أظل، أعمل مترجما حراً إلى جانب تدريس الترجمة واللغويات بالجامعات المختلفة لاحقا؛ وكان من بين أعمالي الترجمية آنذاك لدى إحدى شركات الترجمة عام 2001م ترجمة بعض المواد والتقارير الطبية، وكان من بينها تقرير طبي عن عملية جراحية وَرْبية أو جراحة وَرْبية intercostal surgery (و"الورب" بفتح الواو وتسكين الراء هو "ما بين الضلوع" كما عند ابن منظور وشروحه! (ولاحظ أنني ترجمتها "بين ضلعية" فقط تسهيلاً على الطبيب أو المختص أو القارئ عاميّ اللغة الذي قصَّر في حق لغته! غير أن بعض التسهيل مفسدة .. للأسف! (وهو ما أتجنبه كثيراً في الأصل، إذا ما قارنت ذلك الآن بجمال العربية حين أمدتنا بلفظة واحدة دقيقة "الوَرْب" (ومن معانيها "ما بين الضلوع" كما أسلفت فما أسهلها! "فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟" (هكذا تقول العربية ناعيةً نفسها على لسان حافظ إبراهيم!)

وفي عام 2010 م كنت أعلِّم طلابي بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، وقت أن كنت أستاذا مساعدا بها، كيفية نطق المفردة الطبية المذكورة أعلاه بالمنشور Pneumonoultramicroscopicsilicovolcanoconiosis نطقا صحيحاً تماما وفق قواعد التلفظ الصوتي الإنجليزي لأنني كنت أدرسهم مادة الصرف الإنجليزي Morphology حين أحدثهم عن السوابق prefixes واللواحق suffixes بل الأصول والبينيات infixes والتي تتعلق بتسع عمليات (على الأقل) لتصنيع وتخليق الكلام في اللغة الإنجليزية وتسمى "علميات بناء الكَلِمْ" (وهذه ترجمتي الشخصية لمصطلحها formation processes)! فضلا عن العمليات "المركبة/المتعددة" Multiple processes بل وصيغ التوليف المطولة hyphenated على مستوى الجملة أو العبارة؛ وهو ما لا يعلمه قطعا على هذه النحو المفصل المترجمون المهنيون من كليات الطب أو الصيدلة أو الحقوق أو التجارة إلخ حين تقارنهم بطالب خريج أقسام اللغات/الترجمة! (إن كان ممن يذاكرون طبعا ودرسهم مدرسوهم بضمير فنحن نتحدث عن الأصل! .. سيما والمتاجرة حالياً أو في السابق بقشور هذه المواد العلمية!!! التي هم أهلها أساسا!!! أو بعضها إذ لا قبل لغير المتخصصين بها جميعا! ناهيك عن شعارات التدريب والجودة والاعتماد والأيزو إلخ في الترجمة!!!)

وأستطرد هنا أن طالب اللغات/الترجمة (الحق!) فضلا عما ذكرته أعلاه يغوص في أعماق المصطلحات وأصولها إذ يتعرض لعلوم المعجمية lexicology وصناعة المعاجم lexicography والتأثيل etymology (وانتبه لترجمتنا هاهنا) مما يجعله الأقدر ترجمياً لا محالة، بغض النظر عن شذوذات القاعدة، على إنشاء أو بناء أو تطويع أو تطبيع (إلخ) الألفاظ اللغوية، علميةً كانت أو متخصصةً، حال الترجمة!!!

نعود إلى الكلمة أعلاه في المنشور إذ هي أطول كلمة وُجِدَت في قاموس عصري على الإطلاق.. بل يخطئ في نطقها أساسا بعض أهل اللسان الإنجليزي native speaker (أو المتحدث الأصلي كما يقولون ولا أفعل!)؛ بغض النظر طبعا عن استياء البعض من بعض أو كثير من الأطباء أو الصيادلة إلخ الذين لم يدرسون الصوتيات التلفظية Articulatory Phonetics ومن ثم لا ينطقون الكلمات نطقا صحيحا في الغالب رغم أنها مصطلحاتهم هم!!!

على أنني حرصت حينها ومن بعدها على نشر النطق المعتمد والسليم بين طلابي وغيرهم حين يتعلق الأمر بالمصطلحات العلمية، سيما وأن أصولها في الغالب يونانية أو لاتينية ثم تحولت إلى الإنجليزية بعد ذلك فصارت إنجليزية أصيلة الآن وليس كما يتوهم بعض كاتبي العالم الأزرق! (وذكرني قولهم بالقول بأعجمية بعض ألفاظ القرآن وأنها لا تزال أعجمية حتى الآن!!! وليس من باب التأريخ!!!)

كنا نقسم الكلمة المذكورة أعلاه تقسيما صرفيا مقطعا مقطعا ثم نعود إلى معنى المقطع الصرفي ذو الأصل اليوناني أو اللاتيني لنفهم معنى الكلمة! وهذه لمحة واحدة فقط لعملية ضمن عمليات تخليق وتصنيع الكَلِم (إن جاز التعبير) التي ذكرتها أعلاه ويدرسها طلاب اللغات والترجمة! (وقد نبهت على ذلك كثيرا أيضا حين عدت مدرسا للدراسات العليا بجامعة الإسكندرية عام 2013 ودرست مادة الترجمة العلمية والتقنية للدفعات الأولى حيث الترجمة الطبية وغيرها كانت جزءً منها! (وجلهم مترجمون وباحثون كبار الآن!)

الدكتور الغازي متحدثا في ندوة دولية عن ترجمة معاني القرآن الكريم إلى جانب الدكتور محمد الديداوي وآخرين

وقبل أن أنسى، مستطردا عن عمد، فإن طالب قسم اللغة الإنجليزية/الترجمة، يدرس رسميا (في عهدي على الأقل!) مادة اللغة اليونانية واللاتينية فصلا كاملاً أو اثنين! فيتعرض لأصول الكلمات العلمية والمتخصصة (سواء قانونية أو طبية أو تقنية إلخ!) على نحو علمي منظم.. وذلك إضافة إلى دراسته الصرفية والمعجمية كما ذكرت أعلاه! مما يجعله في الأصل الأعلى كعباً عند الترجمة!!! بل ما أنشأ العالم الذي نعيش فيه الكليات المتخصصة إلا لهذا السبب! ولكلٍ تخصصه فلسنا بدعاً من المجتمع العلمي العالمي!!! فهلا ذاكروا كما ذاكرنا! حتى لا يشتكي بعضهم الآن (كما أُخْبِرتُ) من أنهم لم يتأهلوا للعمل لغوين أو مترجمين؟ أو يزاحمهم بعض المتوهمين من غير أبناء التخصص معتقدين أنهم الأقدر!! أو يصورون لهم تحت أسماء (لا مسميات بالمناسبة!) الاعتماد أو التدريب أو الأيزو أن لديهم في أسابيع ما هم كانوا أهله أساسا عبر سنين! (كما بينت آنفا!)

نقول نعم! .. بورك لكل محب علم أو صاحب معلومة (منها الصحيحة والخطأ بالمناسبة! وهذا منتشر للأسف على ألسنة غير المتخصصين في الغالب!) يساعد طلابنا بنُتَفٍ من هنا أو هناك! لكن .. لكن عن الأصل والعلم أتحدث!!! .. فقد تعلمت في أصول الفقه! (نعم، الفقه والمنطق وعليه إجماع العقلاء! وانتبه لتلك القواعد الأصولية) أن "الشاذَ لا يقاسُ عليه!"؛ وأن "النادرَ لا حكم له!" .. فالأصل أن الترجمة علمٌ ولها علماؤها وأهلها ومتخصصوها كما أن لها معاهدها وكلياتها العلمية والعملية!!! ومن ثم كانت دعوتي دائما على سبيل التذكير فقط لا الإنشاء (إذ لست مؤسسا أو منشئا أو بدعاً من الـمترجمين!) أن الترجمة علمٌ كبيرٌ وله علماءه ومتخصصوه!

فاللهَ اللهَ في علمكم طلابَ وأساتذة! (اللهَ اللهَ بالمناسبة تعبير اصطلاحي إنشائي! ويكون بفتح هاء الاسم الأعظم في الكلمتين على تقدير المحذوف أو إيجاز الحذف ellipsis وقد بينته في منشورٍ سابق)

نعود إلى المصطلح العلمي الطبي أعلاه! Pneumonoultramicroscopicsilicovolcanoconiosis

ذهبت إلى مدينة وجدة بدولة المغرب الشقيقة في مطلع عام 2011 لإلقاء كلمة في مؤتمر عن إشكاليات ترجمة القرآن الكريم.. والتقيت هناك بعالم الترجمة المعروف والأستاذ الجامعي الامع وهو من مؤسسي أقسام الترجمة في الأمم المتحدة أيضا أ.د. محمد الديداوي..

سألته في دردشة مسائية وكنا مقيمين في الفندق الذي أنزلنا فيه القائمون على المؤتمر!

سعادة الدكتور: فيما يخص تعريب المصطلحات العلمية ومنها الطبية مثلاً (والفرق كبير عند الإشارة إلى التعريب قبل استقرار الترجمة! والترجمة نفسها! والنسبية بينهما أحيانا! .. فثمة فارقٌ كبير طبعا لمن درس! بين تعريب الجديد وترجمة الموجود!):

قلت: ماذا تقول في ترجمة هذه الكلمة Pneumonoultramicroscopicsilicovolcanoconiosis ونطقتها نطقا صحيحاً ثم بينت مقاطعها الصرفية ومعانيها على الأصول اللاتينية/اليونانية أو الإنجليزية المعاصرة (ومن الأدب في ظني أن أفعل ذلك فأنا لا أدري إن مرت الكلمة بمحدثِّي، العالِم، أم لا! .. لكني أوضحتها دون أن أترجمها!)

فرد الدكتور بكل بساطة مبتدئاً بالاختصار وقال: "التغبُّر الرئوي"!

قلت ولو أردنا مزيد من توضيح بقية الجذور مع التقييد:

قال: "التغبر الرئوي البركاني"! .. ثم زدنا معا "الالتهاب الرئوي البركاني" أو السيليسي" أو حتى كما على المشهور في العربية مستخدمين وزن "فُعال" الذي يستخدم للأمراض فنقول "سُحار" فتكون "السحار الرئوي السيليسي البركاني إلخ" وكل هذه المصطلحات بالمناسبة ما هي إلا تجليات لأصل واحد في الطب، وهو أمراض "تغبر الرئة" التي تختلف أسماؤها (لا مسمياتها بالمناسبة!) بحسب نوع الغبار الذي قد يكون قطني (من غبار القطن) أو حجري (كما في المحاجر والمناجم) أو فحمي أو بركاني أو رخامي أو سيليكي كما في ذرات الرمال الدقيقة إلخ.. ومن ذلك مثالا لا حصرا:

Byssinosis، Pneumoconiosis، Asbestosis، Silicosis، Silicosiderosis، وهكذا دواليك بحسب نوع الغبار!

وهنا قلت وأقول: سبحان الله! .. ما أفقهك وأبسطك سعادة الدكتور!

إذا كانت أطول كلمة انجليزية في العالم أشدها تعقيداً (تظهر في قاموس معاصر) وتربو على تسع (9) مقاطع صرفية! وحروفها 45 حرف وتترجمها بكل هذه البساطة ترجمةً صرفيةً موجزةً! وبليغة! فإن ما دون ذلك أسهل على كل عالمٍ متخصص! (لا على أدعياء أو دخلاء ظنوا أن الأمر هكذا دون تحصيل أصول علوم اللغة ومباحثها البينية تحت فوضى التدريب أو التحول الوظيفي أو الأعمال الجانبية! ناهيك عن علوم الترجمة الفورية ومباحثها وآلياتها!)

وهنا رددت وأردد بلسان الحال: هذا هو العلم النظامي والتخصص! .. نتاج سنوات من العلوم النظامية! ومعارف كثيرة تراكمت عبر الزمن! .. لا شهر أو اثنين!!! لا كورس أو اثنين!!! فثمة فارقٌ كبير بين العلوم والمهارات! (لو أنهم كانوا يعلمون!)

(ملحوظة: كان حوارنا عام2011 بدولة المغرب الشقيق ولا أدري حتى إذا ما كانت الكلمة قد ظهرت مترجمة على جوجل أو غيره كما تظهر بعض تجلياتها الآن!) لكن أحسب أن المضمون بلغ قارئي!

ليس مطلوبا من "المترجم المهني" (أي ليس من خريجي أقسام اللغات/الترجمة مثل الطبيب أو الصيدلاني أو المحاسب أو المحامي إلخ) أن يكون مثل "المترجم المتخصص" (أي خريج أقسام اللغات وهذه هي التسمية الرسمية الحكومية فثمة فرقٌ كبيرٌ بين المترجم "المهني" و"المتخصص" و"الدبلوم المهني" و"المتخصص" كما أوضحت في منشورٍ سابق! وأسلفت ههنا أن الثاني أعلى كعباً في الأصل!)، ولا منهم جميعاً أن يكونوا علماء أساتذة في التخصص! إذ العلم درجات! وفوق كل ذي علم عليم! غير أنه مطلوبٌ من الجميع أن يجملوا في الطلب!.. وأن يعرفوا مقامات بعضهم بعضاً دون ادعاءات أو مبالغات أو تلاسنات! .. وأن يبنوا ويقيسوا دائما على الأصل؛ لا على الفرع أو النادر أو الشاذ! لأغراض ربحية أوتجارية أو شخصية أو غيرها؛ فإنه .. فإنه كما أسلفت وأختم بما تعلمت في الأصول (والأصول هنا مصطلح لا يعني ethics أبدا!!!): "أن النادر لا حكم له"، وأن "الشاذ لا يقاس عليه"

تلك كانت كلمتي وبها قلت وأقول! .. وقد كان ذلك بياناً لما تكرر سؤالي عنه قد بنيته على الأصول! .. وأبرأ إلى الله من كل تلميحٍ أو تجريحٍ أو فضول! غير أنني يوما .. عن هذا العلم مسؤول!

وختاماً فأعلم أن آفة هذا الأزرق التشابه والتناص! .. وإن من الفقه علمي أن انتقادي ليس منهُ بدٌ أو مناص! .. ولكن ما ضرّي عند البشر! إن .. إن قدَّر اللهُ ليَ الإخلاص!

الحمد لله رب العالمين

ملحوظة مهمة

جميع المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها الأفاضل. وقد نُشِرت لما لها من قيمة وأهمية.